طلال سلمان

هدف هو عراق لا سلاحة

إذن، فالقرار متخذ، والبحث جار عن الحيثيات التي تدين الضحية بعد إعدامها!
إذن، فالأمر لا يتصل بالطبيعة الدكتاتورية لنظام صدام حسين والمهمة الرسولية لإدارة جورج بوش الأميركية بإشادة عمارة الديموقراطية في بلاد ما بين النهرين.
إذن، فالأمر يتجاوز الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومدى التزام بغداد بالقرارات الدولية، لا سيما القرار 1441، وتعاونها مع المفتشين الذين كثيراً ما تصرفوا وكأنهم يقلدون جيمس بوند والعميل 700، متجاوزين بحصانتهم المصفحة المدى الذي كان يمكن أن يصل إليه رجال المخابرات السرية عالية التدريب!
ذلك أن رئيس هيئة المفتشين قد أكد لمجلس الأمن أن الحكومة العراقية قد تعاونت مع »رجاله« وإن كان طالب بمزيد من التعاون، وهذا النقص في التعاون لا يبرّر إعدام »المتهم« شنقاً!
كما أن المدير العام لوكالة الطاقة الدولية قد نفى وجود أنشطة نووية، وطالب بمهلة إضافية لاستكمال التفتيش والتحقق من التزام العراق أو عدم التزامه بتعهداته…
لكن التعليق الأميركي الرسمي الفوري سبق مناقشات مجلس الأمن، ومن ثم قراره الجديد المحتمل صدوره »بعد المداولة« فقال متهكماً: إن نتائج عمل المفتشين تظهر أنهم بحاجة إلى ثلاثمئة عام.
كذلك فإن وزير الخارجية الأميركية قد تجاوز الاتهام الخفيف والمستفز الذي أطلقه ضده »نده« العراقي فوصفه فيه بأنه »الكذاب«، وقال إن اتخاذ القرار المناسب رداً على العصيان العراقي إنما يتوقف على المشاورات التي سيجريها البيت الأبيض مع »حلفائه«، مسقطاً فرنسا وألمانيا من خانة الحلفاء، وروسيا والصين من خانة أصحاب الرأي (أما العرب فليس لهم حساب!!) في أمر خطير كالحرب التي قد تتجاوز بمفاعيلها ونتائجها حدود العراق إلى كل جيرانه شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً…
مرة أخرى تتصرف الإدارة الأميركية وكأن قرارها متخذ فعلاً، ولكن التوقيت ينتظر استكمال مستلزمات الحرب على »أسلحة الدمار الشامل« تمهيداً لاستبدالها بمؤسسات الديموقراطية الشاملة في أرض الرافدين… ديموقراطية ما بعد الموت!!
إذن، فالأمر لا يتصل بصدام حسين ودكتاتوريته، بل هو يتصل بالعراق كدولة كانت ذات يوم غنية، ويمكن أن تعود غنية وقوية، وكشعب بنى برغم كل الظروف المعاكسة (من الداخل والخارج) قلعة صناعية متقدمة، وبات يملك كنوزاً من الخبرات والعقول والكفاءات العلمية.
فعلى امتداد شهرين طويلين تابع العالم مسلسل المداهمات شبه البوليسية للمصانع والمعاهد والجامعات والمعسكرات وحتى الملاجئ (وأشهرها ملجأ العامرية الذي دكته الطائرات الأميركية قبل اثنتي عشرة سنة فقتلت فيه أكثر من أربعمئة امرأة وطفل وشيخ كانوا يحتمون فيه مفترضين أنهم في أمانه المصفّح..).
…على امتداد شهرين طويلين كان شعب العراق كله، والعلماء والخبراء والدارسون المميّزون فيه على وجه الخصوص، يعامَل وكأنه مجموعات من رجال العصابات أين منهم آل كابوني، أو مهربي المخدرات: أُسقطت حرمة البيوت، ورُفعت الحصانة عن دُور العلم ومراكز البحث والمعاهد المتخصصة، و»باغت« المفتشون كل الأمكنة التي قد تكون »خبئت« فيها أسلحة الدمار الشامل.
وُضع شعب بكامله، عبر نُخبه من العلماء والأكاديميين والخبراء المتخصصين في الصناعات المتقدمة، في خانة الخارجين على القانون مهددي سلامة كوكب الأرض… بل لقد عومل هؤلاء وكأنهم وحوش بشرية يخططون لتدمير الحضارة الإنسانية، وتمّ »تنسيب« أسامة بن لادن إليهم بغير دليل…
والآن فإن كولن باول يريد اعترافاً عراقياً صريحاً بامتلاك
»الجمرة الخبيثة« والإرشاد إلى الأوكار التي خبئت فيها، كما يريد توفير مقابلات انفرادية مع العلماء، بغير مرافقين، فضلاً عن كشف كامل بالعلماء الذين اشتركوا سابقاً في برامج التسليح، كما يريد إطلاق طائرات التجسس داخل النوايا والأفكار والعقول العراقية.
وإلا… فالقرار بتدمير العراق جاهز، وكذلك التبرير: بناء الديموقراطية في أرض بابل وشريعة حمورابي.
ملحوظة: في هذا الوقت بالذات، و»على هامش« الحملة الأميركية المنظمة ضد العراق يستمر السفاح أرييل شارون في تدمير البيوت والورش والمصانع المحدودة والدكاكين والبساتين ونور الشمس وقمر الليل في فلسطين… مع أن أحداً لم يتهم شعب فلسطين بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ولا حتى بامتلاك أسلحة بسيطة يستطيع الدفاع بها عن حياته كما عن بيوته ومرافقه البسيطة، في أرضه التي توارثها جيلاً بعد جيل، منذ آلاف السنين!
ملحوظة ثانية: لم تشفع »الديموقراطية« التي تمّ بناء مؤسساتها الأولية بإشراف أميركي مباشر للسلطة الفلسطينية المتهالكة، ولا هي منعت محاصرتها بالدبابات في غرفة يكاد لا يدخلها النور أو الهواء، بغض النظر عن مدى صلاحها أو فسادها ونزاهتها أو خراب ذمتها المالية.
وقديماً قال حكيم من الغرب: أيتها الديموقراطية كم من الجرائم تُرتكب باسمك!
وشارون هو الوجه الديموقراطي لجورج بوش الجمهوري!

Exit mobile version