طلال سلمان

نهاية طاغية بداية تجديد وحدة وطن

هي نهاية تليق بطاغية: جبار على شعبه، متخاذل أمام الاحتلال الأجنبي.
وهي نهاية لا تخرج على القاعدة: كل دكتاتور جبان، يقتل ولا يقاتل، لا يؤمن بالشعب بل يخافه فيستقوي عليه بالسلطة المطلقة وبالأجهزة المدرّبة على الإعدامات الجماعية كما على الاغتيالات الفردية، خنقاً أو شنقاً أو رمياً في قناة الجيش أو ذبحاً في السجن بتهمة الشذوذ الجنسي!
على أنها نهاية تفتح الباب أمام غد مختلف للعراق عن أمس الطغيان وعن حاضر الاحتلال الأميركي: لقد انتهى صدام حسين وحيداً في حفرة مصفحة، معه سلاح لم يستخدمه، ومعه أموال لم تنفعه في رشوة »المخبر«، خصوصاً أن الاحتلال الأميركي قد تجاوز المساومة منذ أن فتح له الدكتاتور أبواب العراق بغير قتال، تقريباً، بعدما حلّ الجيش ومعه الحرس؟ وشرّد »الحزب« الذي طالما استخدمه كواجهة عقائدية فألحق الإهانة بتاريخه النضالي وبشعاراته التي كانت شبه مقدسة فجعلها أقرب إلى النكتة السوداء.
فأما الحديث عن صدام حسين الأسطورة، الذي أقام لنفسه أكثر من ألف تمثال في مختلف أنحاء العراق، وعن منجزاته الخارقة للمألوف والمعقول سواء في الداخل أو مع أقطار الجوار، فإنه حافل ومثقل بالدم، وليس من فائدة ترجى من إعادته وتكراره.
المهم، الآن ومع سقوط الأسطورة التي تكشفت عن كذبة سمجة، هو الحديث عن الغد.
لقد سقط »الشبح« الذي كان يعطل الرؤية أو يشوّش عليها بمآثره التي كثيراً ما ارتدت مسوحاً عنصرية أو طائفية أو مذهبية ففصلت بين العراقيين وقسمتهم على الجهات الأصلية (جنوب، شرق، غرب، شمال مع إضفاء خصوصية على »الوسط«!).
لم يعد »صدام« حاجزاً بين العراقي والعراقي، وبالتالي حاجزاً بين العراقيين بمجموعهم وبين قوات الاحتلال.
ومن غير أن نغرق في الأوهام فنفترض أن الاحتلال الأميركي قد قطع كل هذه المسافات من أجل تخليص العراق من طاغيته وفتح باب الحرية أمام شعبه المقموع والمضطهد والمغيّب تماماً عن القرار، وتعليمه أصول الديموقراطية وأبجدية الانتخابات..
.. ومن دون أن نذهب مع السذاجة إلى حد الافتراض أن اعتقال صدام حسين سيوحّد العراقيين آلياً في مواجهة الاحتلال، بما يمكّنهم من السعي مجتمعين لاستخلاص الاستقلال الوطني، واستنقاذ وحدة »دولتهم« فضلاً عن هويتها التي تبدو الآن مهددة جدياً وكما لم تكن في أي يوم منذ إقامة هذا الكيان، في جملة ما اصطنع »الاستعمار القديم« من كيانات بعد إلحاقه الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الماضي.
من دون ذلك كله، يمكن الافتراض أن سقوط شبح صدام حسين سيمكّن العراقيين من توحيد نظرتهم ومن ثم مواقفهم من صورة مستقبلهم في وطنهم الذي لم يعد بعد إليهم، لا في واقعه الراهن ولا في القرار حول غده وغدهم فيه.
لقد كان صدام حسين، بشخصه كما بنظامه، عامل تفريق بين العراقيين وعامل تمزيق لوحدة العراق السياسية: »الشمال« مفصول بتأثير جرائمه فيه التي لم تبدأ في »حلبجة« ولم تنته معها وفيها، والتي شكلت ذريعة جدية للبحث في مستقبل للأكراد قد يتجاوز »الحكم الذاتي« الذي عرضه النظام السابق قبل ثلاث وثلاثين سنة ثم لم يلتزم به، إلى مطالبة صريحة بفدرالية بل بكونفدرالية تقارب الانفصال (إلا عن كركوك النفط)..
كذلك فقد كان صدام حسين، بشخصه كما بنظامه، سبباً في »انتفاضة الجنوب« التي مكّنه الأميركيون من سحقها (بعد طرده من الكويت)، وكان بديهياً أن يبرر جرائم القتل الجماعي والتدمير الذي لم يوفر مقدساً في »أرض السواد« تلك باتهام أهل الجنوب في وطنيتهم والإيحاء بأنهم حابوا إيران لأسباب مذهبية، هم الذين كانوا الأشرس في قتال إيران على امتداد سنوات الحرب التي شنها صدام بالاتفاق مع الأميركيين ضد الثورة الإسلامية، تخوفاً من أن يعم وهجها في المنطقة فيبدّل في المعادلات القائمة وربما في المصائر.
لقد دمر صدام حسين مقوّمات الدولة وضرب وحدة العراقيين في الصميم: دمر الحزب الذي وصل باسمه الى السلطة بالمخابرات، وضرب الجيش بالحرس الجمهوري، ثم أقام خط دفاع أخيراً من العشائر التي لم يعرف عنها الالتزام العقائدي أو الاستشهاد من أجل الوطن (خصوصاً وأن كبراها تنتشر في أكثر من »وطن« مستحدث، ولا تعترف بالتالي بالحدود… وكان بديهياً أن يهجر شعارات »البعث« ومنطلقاته النظرية إلى ما يحمي تفرده بالسلطة، وهكذا انتهى محصوراً ومحاصراً في عشيرته وداخل منطقته، أي تكريت وما جاورها (الفلوجة، الرمادي).
ولعل في هذا التقوقع داخل منطقة واحدة، شبه مغلقة على العشيرة ومن والاها، ما أساء إلى صورة المقاومة، فجعلها تبدو كأنها محصورة في بيئة بعينها، وليست عراقية شاملة، كما توقع المؤمنون بوطنية العراقيين.
ولقد أسهم الاحتلال الأميركي ومعه مناصروه والمنتفعون منه في محاصرة المقاومة بالإشارة إليها وكأنها من نتاج »المثلث السني« وحده… والتعبير بذاته يتضمن إساءة بالغة إلى المقاومين، كما إلى الشعب العراقي بمجمله، إذ يقسمه بالطوائف وبالجغرافيا، واستطرادا بالشعار السياسي: إذ يبدو وكأن التحرير معركة طائفة، بل بعض طائفة بالذات، وفي منطقة بالذات، وليس مطلب العراقيين جميعا…
الجانب الآخر للصورة: أن يظهر أهل الجنوب »الشيعي« وكأنهم أبرياء من المقاومة، وأن يظهر أهل الشمال »الكردي«، وكأنهم متواطئون مع الاحتلال عليها… وهذا يسهل الاستنتاج الذي خلص إليه بعض المنظرين الأميركيين للاحتلال فقالوا بتقسيم العراق إلى ثلاث دول، إحداها شيعية في الجنوب وأخرى كردية في الشمال وثالثة سنية في الوسط!!
***
لقد انتهى نظام صدام حسين باعتقاله شخصيا، مختبئا في حفرة، في جوار مدينته التي ما زالت على فقرها، ومعه سلاح لم يستخدمه لاستنقاذ شرفه كمقاوم لجنود الاحتلال وقد واجههم بالاضطرار أخيرا.
صار ممكنا النظر إلى مستقبل العراق من خلال واقعه الراهن: هو بلد تحت الاحتلال!
لقد ذهب »الماضي« الذي كان تسبب في تصديع الوحدة الوطنية وتمزيق الشعب ذي المصير الواحد إلى مجموعات متنابذة من الأقليات الدينية والطائفية والعرقية والعنصرية، كأن لم يجمعها تاريخ مشترك، ولا أرض واحدة، ولا حلم بمستقبل أفضل.
كأن العراق لم يوجد إلا مع صدام حسين ومن البديهي أن يذهب بذهابه.
ولقد سقطت الآن تلك المعادلة البائسة التي كانت تقول: الأولوية هي للخلاص من النظام… ثم بعد ذلك نلتفت إلى مقاومة المحتل الذي أعاننا على الخلاص من الطاغية!
إن العراقيين الآن في مواجهة مصيرهم.
وأولى المهمات استعادة وحدتهم التي مزقها صدام حسين شر تمزيق، وهي مهمة صعبة، ولكنها حيوية فضلا عن نبلها، بحيث انها تستحق أغلى التضحيات: أن يبقى العراق أو يزول.
ولن تنفع الدويلات، بطبيعة الحال، لا عرقا ولا طائفة.
ولن يفيد الانقسام إلا في التمكين للاحتلال ولو بحرب أهلية قد لا يرى مانعا من نشوبها إذا كان ذلك يفيد في التجديد لجورج بوش (ومعه أرييل شارون) وفي إرهاب المنطقة فتستسلم الى قدر الاحتلال وكأنه أهون الشرور!
وليس العراقيون بحاجة الى من يعلمهم مبادئ الوطنية أو أصول المقاومة، فلهم في تاريخ مواجهة الاحتلال صفحات مشرقة ومشرفة لطالما تعلمت منها الشعوب داخل دنيا العرب وخارجها.
إن استسلام صدام حسين لحظة تاريخية نادرة لا يجوز ان تضيع دلالاتها في غياهب النقاش العبثي حول حقوق الطوائف في كعكة الحكم، بل وحول أعدادها، ونسبتها الى المجموع، ومن يشكل الأكثرية منها وله بالتالي الحق بالموقع الأول.
فأي رئاسة ستكون إذا ذهب الوطن، أو اذا بقي في أسر الاحتلال؟!
وأي وطن سيكون ذلك الكيان الهش الذي قد يساعد الاحتلال على اقامته على أساس فئوي، عنصرياً كان أم طائفياً؟!
انها لحظة تاريخية لكي يستعيد العراقيون عراقهم، وأن يتفقوا بعدما أسقطت أسباب الفرقة على صيغة حكمه من داخل وحدته وليس على حسابها.
إنها لحظة امتحان لوطنية العراقيين، وشرط الوطنية في هذه اللحظة وحدة الوطن… أما نظامه فليكن نقاشه مفتوحاً على مداه، ولكن دائماً داخل حدود وحدته أرضاً وشعباً وهوية ومصيراً.
وإذا كان الأميركيون قد جعلوا استسلام صدام »فجراً أحمر«، فإن العراقيين مطالبون بأن يجعلوه فجراً لوحدتهم المجددة داخل وطنهم الموحد.

Exit mobile version