طلال سلمان

نهاية حقبة سورية طوائف تنتخب »ديموقراطيا« تحت راية تدويل

… أخيراً، حكومة يصعب وصفها ب»الجديدة« وإن كانت »مختلفة«، تتقدم إلى المجلس النيابي »العتيق« ببيان تغيب عنه »ثوابت« البيانات السابقة، بقدر ما تغيب عنها »الوجوه« التي كانت على امتداد خمس عشرة سنة بعض ملامح المشهد اللبناني… والتي لا يمكن تبرئتها من نتائج ما حصل، وهو هائل وخطير!
إنها نهاية »الحقبة السورية« في لبنان…
… وغداً، الثلاثاء، يتم »الاحتفال« بالانسحاب السوري (الشامل) في وداع فيه من برودة البروتوكول أكثر مما فيه من حرارة »معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق« وكل ما استولدته من شعارات وحكومات و»قوى« تحت لافتة »وحدة المسار والمصير« المتروكة للريح…
وها هو »القرار الدولي« يظلل لبنان كله: يضع الخاتمة غير المبهجة للحقبة السورية، ويقرّر للبنانيين شؤونهم بدءاً بالانتخابات مروراً بالحكومة، وصولاً إلى مقتضيات التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبينها مصير قادة الأجهزة الأمنية وقد جيء ب»السبع« ليؤدبهم ويعيدهم إلى طاعة أولي الأمر وفق التراتبية العسكرية الصارمة…
إنها نهاية الحقبة السورية في لبنان…
وهي نهاية بائسة من أي زاوية نظرت إليها: في السياسة كما في الاقتصاد، وفي الثقافة والتربية كما في العسكر والمخابرات، وفي المصالح كما في العواطف وصلات الرحم…
إن المقدمات السيئة لا يمكن أن تنتهي بخواتيم مفرحة…
والمراجعة النقدية المتأنية لهذه التجربة الغنية بالأخطاء والفقيرة بالإنجاز، تدل على حجم الخيبة التي انتهت إليها خلافاً لما كان مأمولاً منها في توطيد علاقات أخوة قائمة بالأصل، ولا فضل فيها لمتفضل، ومصالح مشتركة تشمل مختلف جوانب الحياة، ولا تحتاج إلا إلى الحد الأدنى من الرعاية الرسمية لتسهيل التعقيدات البيروقراطية ومنع الانتهازيين والمتسلطين والفاسدين المفسدين من حرفها عن طبيعتها لتغدو غنائم شخصية على حساب الشعبين الشقيقين بالنسب والطبيعة والمصلحة ووحدة المصير، بعيداً عن المنافقين من تجار الشعارات…
هنا سنكتفي بتناول الانتخابات النيابية المقبلة في لحظتها السياسية الراهنة، وبكل دلالاتها، كنموذج لبعض ما استولدته (أو كرّسته) الحقبة السورية، وبعده عن المأمول والمحتمل والذي كان على الأرجح يفوق طاقة (وخيال) المخططين والمنفذين من ممثلي السلطة في »الشعب الواحد في دولتين«.
* * *
قبل سبعين يوماً، وكرد فعل عاطفي وسياسي، نزل مئات الألوف من اللبنانيين الغاضبين، أكثريتهم الساحقة من الشباب، إلى ساحات بيروت وشوارعها، يطالبون بدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه الحرية والسيادة والاستقلال والديموقراطية…
كان المشهد مهيباً، تجاوز كل تصور لدلالاته وكل تقدير لحجم المشاركين فيه.
وكان للشعارات المستعادة شيء من القداسة، فهي تستحق فعلاً النضال من أجلها، باعتبارها تجسّد آمال الشباب في التغيير نحو الأفضل.
لكن التدقيق في العلاقة بين الشعارات وأصحابها سرعان ما كشف مجموعة من المفارقات التي كان لا بد أن تؤثر على المردود السياسي لتظاهرات الغضب، فتجعله أقل بكثير من المتوقع وأبأس من المأمول:
فالمتظاهرون، بمجملهم، تبدوا بعد وقت قصير كتلاً طائفية ومذهبية متمايزة، حتى لا نقول: متنافرة.
في جهة كانت هناك »القوات اللبنانية«، التيار العوني، كتائب آل الجميل، التيار الشمعوني، بقايا »حراس الأرز«، وجماعات بعض وجاهات قرنة شهوان الشمالية…
في جهة أخرى، ولو في صف واحد، كان هناك دروز الحزب التقدمي الاشتراكي…
في جهة ثالثة من الصف الواحد كان هناك سنة »تيار المستقبل« في الأطراف وكتلة نواب بيروت.
بالمقابل كان هناك الجمهور الشيعي ل»حزب الله« أساساً، ومعه جمهور حركة »أمل« الشيعية…
… وكانت الأحزاب العلمانية العتيقة تحاول عبثاً تمييز نفسها ولو في أضيق نطاق، بشعاراتها التي تبدت غريبة عن مزاج »الجمهور«.
وفي حين ارتضى القوميون والبعثيون أن يتغطوا بعباءة »حلفائهم« في »حزب الله« و»أمل«، فإن الشيوعيين أصروا على الخروج إلى الشارع منفردين، لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من تاريخهم »التقدمي« وتجاوزهم للطائفيات والمذهبيات.
في ظل هذه الأجواء، جاءت لجنة تقصي الحقائق، ثم كان قرار مجلس الأمن الدولي 1595 بتشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف الحقيقة وتحديد المخطط والمحرض والمنفذ والمستفيد من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد…
ظللت القرارات الدولية نهاية الحقبة السورية في لبنان، وأخرجته إلى ما يشابه الوصاية الدولية عليه وعلى سوريا…
… وها هي الانتخابات النيابية تجيء في ذروة احتدام طائفي ومذهبي، وفي ظل »هزيمة« مريعة للحقبة السورية بكل رموزها وتكتيكاتها، وفي ظل وضع يد دولية على القرار السياسي اللبناني بأساسياته كما بتفاصيله…
أي انتخابات هذه التي ستجري بعد شهر، وأي ديموقراطية ستعبّر عنها، مع هذا الاحتدام الطائفي والمذهبي وهذه الوصاية الدولية المطلقة؟
لا مجال لتمويه الوقائع، فالانتخابات سوف تجري وسط جو قاتل للديموقراطية، وسيوصل إلى المجلس النيابي »الأكثر تمثيلاً لطائفته«، والذي ليس بالضرورة أن يكون، (بل يستحيل أن يكون) الأفضل تمثيلاً لشعب لبنان في طموحه إلى الديموقراطية، باعتبارها المجسّد السياسي لشعارات الحرية والسيادة والاستقلال.
لا يعني هذا »رفض« الانتخابات، من حيث المبدأ، ولكنه يعني أن الديموقراطية ستكون الضحية الأخطر لهذه الانتخابات، الطائفية بقانونها كما بالتقسيمات، كما بنتائجها التي ستقرّرها العصبيات المستثارة إلى حدها الأقصى، في حماية التدخل الدولي الذي يشرعنها ويجعلها معادية لهوية أهلها المنقسمين والمتخوّفين من مستقبل »عراق تحت الاحتلال« المكتوب بدم أهله.
كذلك فسوف يكون اتفاق الطائف، أو ما تبقى منه، الضحية الثانية لهذه الانتخابات التي يزعم الزاعمون أنها ستجري تحت شعار »استكمال تنفيذ الطائف«، ويحاولون المزاوجة المستحيلة بينه وبين القرار الدولي، أو يزعمون أن الانتخابات ستساهم في تصحيح تنفيذه الذي تسبّب الوجود السوري في عطبه أو في وقف تنفيذه…
فالقرار الدولي لن يكون أرحم بالطائف من الدور السوري: إنه يرسم صورة للبنان مختلف جداً عمّا كان، وكذلك عن المأمول…
ها هو لبنان الطوائفي يعود »ديموقراطياً« إلى عصر القناصل، ما قبل المتصرفية أو خلالها: لا رأي لأهله لا في نظامه ولا في العلاقة مع محيطه، وإنما تقرّر لهم الدول »قرارهم الوطني المستقل« فيفرحون به باعتباره ثمرة »ثورة الأرز«.
* * *
في الشكل، لا يستطيع أحد الطعن في شرعية المجلس الأكثر طائفية الذي ستستولده هذه الانتخابات وفق قانون طائفي، سواء أكان قانون الستين أو قانون الألفين، وكلاهما يرتكز إلى قاعدة واحدة: إنجاح الأكثر تمثيلاً لطائفته، وللمتعصبين فيها، وليس إنجاح الأكثر تمثيلاً لمواطنيه وبالتالي للديموقراطية… ومن خلفها السيادة والاستقلال والحرية.
فهذه الشعارات تكتسي، في لبنان فقط، دلالات طائفية…
وحتى راية البلاد، بالأرزة الخضراء في مساحة بيضاء بين خطين أحمرين، فإن فيها فقط في لبنان، من الطائفية المضمرة أكثر مما فيها من الوطنية المرتفعة الصوت.
وحينما »اضطر« المتظاهرون جميعاً إلى التنافس بالرايات اللبنانية لم يكن في المشهد ما يعبّر عن وحدة وطنية، بقدر ما كان يعبّر عن هزيمة لشعارات وأهداف وطنية قومية لمصلحة هوية كيانية مصفحة بالمذهبية أو بالطائفية: كان الخيار بين النفاق السياسي أو الفتنة.
لقد كانت جريمة اغتيال رفيق الحريري مرعبة في استهدافاتها ومدمرة في نتائجها التي لما تكتمل…
وفي جملة نتائجها أنها أصابت العروبة في رمزيتها الجامعة، وأعادت الاعتبار إلى المذهبية والطائفية… المصفحة الآن بالشرعية الدولية.
لقد فسخت الجمهور الوطني العربي وأعادته إلى »أصوله« الأولى، فإذا هو »جماهير« متعددة، لسوف تتواجه اليوم في الانتخابات، كما ستتواجه غداً، وكل يوم، عند بحث أي مسألة جدية… ولسوف تكون ذكريات الحقبة السورية وترسباتها وشخوصها حاضرة دائماً لدفع الناس في الاتجاه الآخر…
وأول افتراق ظهرت معالمه حول اتفاق الطائف، ولسوف يتأكد هذا الافتراق مع كل يوم جديد.
* * *
لقد توهّم الناس أن الحقبة السورية كانت بديلاً من التدويل.
ولعله كان ممكناً، ذات يوم، أن تكون كذلك، لو أن الشعور بوحدة الانتماء العربي ووحدة المصير هو ما حكم هذه العلاقة، فأخرجها من محبس التدويل إلى آفاق المصالح المشتركة والاعتراف بالاختلاف.
لكن النهاية المفجعة أن ما انتهت إليه هذه الحقبة هو تكريس التدويل، على حساب سوريا أيضاً.
والانتخابات بنتائجها المتوقعة، لن تكون مع الأسف إلا تثبيتاً لهذا الواقع الذي حاولنا أن ننتصر عليه بالوطنية فسجنتنا فيه نزعة إلى الهيمنة والتحكّم والتفرّد والاعتماد على »الصغار« الطيعين وتقديم المنافع الشخصية على المصالح الحقيقية للبلدين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر.
* * *
هي ليست نهاية الدنيا بالتأكيد، لكنها نهاية مرحلة كان يمكن أن تشكل بداية واعدة بمستقبل أفضل للبنانيين والسوريين، ومعهم سائر العرب.
بهذا المعنى يكون التدويل »هزيمة عربية« شاملة، حتى لو ادعى البعض، أو افترض أنه قد اختاره باعتباره الشر الأصغر بديلاً من الحرب الأهلية.
في ضوء هذه الوقائع جميعاً يبدو قرار سعد رفيق الحريري بالتقدم لإكمال رسالة أبيه الشهيد، في غاية الشجاعة.
إنه ينتدب نفسه لمهمة تكاد تكون مستحيلة، وهي السعي للإفادة من لحظة التوحد ضد الخطأ، وضد الجريمة، لكي يعلن أنه سيتقدم الصفوف مرشحاً للانتخابات، لكي يكسر حدة التموضع الطائفي والمذهبي، وليقدم برنامج رفيق الحريري، في طبعة جديدة ممهورة بدمه، كنقطة انطلاق نحو تغيير الواقع المتردي الذي كانت جريمة الاغتيال ذروة الفجيعة فيه، وطنياً وقومياً وإنسانياً…
وليس مما يسعد اللبنانيين أو السوريين، أو سعد الحريري على وجه التحديد، أن يربط الناس بين اغتيال شهيدهم العظيم رفيق الحريري وبين انتهاء الحقبة السورية، وسقوط لبنان تحت أثقال التدويل.
لكن سعد الحريري متفائل، مثل أبيه، الذي استشهد مبتسماً وكان ماضياً إلى تحقيق ما تبقى من أحلامه فوق الأرض الملغمة، تحت الرايات التي ذهبت الشمس بألوانها حول وحدة المسار والمصير.

Exit mobile version