طلال سلمان

نموذج لبناني ديموقراطية اسرائيلية

لم يعد لبنان »الوكيل الحصري« للديموقراطية في الوطن العربي.
ولم يعد العرب يكتفون »بالفرجة« على »الديموقراطية اللبنانية«، بالقدوم إلى بيروت خصيصا لشراء صحيفة أو كتاب أو متابعة المناقشات بين أهل الحكم والمعارضين في المجلس النيابي وخارجه، أو عبر »الفضائيات« التي يسّرت الأمر على المتشوقين إلى الديموقراطية ولو كمشهد خارجي، ووفرت عليهم تذاكر السفر وعذاب المطارات.
بل لقد بهت النموذج اللبناني للديموقراطية، عربياً، فلم يعد »المثال« و»القدوة« المشتهيين، وإن كان ما زال الأقل سوءاً بين »الديموقراطيات« النظامية العربية.
والواقع أن المنطقة العربية تمور، الآن، بجدل علني، لم تشهد له مثيلاً من قبل حول الديموقراطية وحقوق المواطن، بل حقوق الإنسان.. بعض هذا الجدل طبيعي ومن نتاج »المرحلة« التي يعيشها أهل البلاد الذين عادوا أو أُعيدوا أو استعيدوا بعد غياب طويل، وبعضه الآخر يحمل شبهة كونه »مستوردا« ومصنوعا »في بلاد بره« ويوظَّف ولو بشكل محدود في عملية المساومة المفتوحة بين الأنظمة العربية ومراكز (بل مركز) القرار الكوني..
ليس السياق واحدا في الأقطار المختلفة، لكن الموضوع واحد: دور المواطن وموقعه على خريطة الحكم في بلاده، وإلى أي حد يشارك في القرار المتصل بحياته، حاضرا ومستقبلا.
فُتحت الأبواب التي كانت موصدة في العديد من الأقطار العربية خوفا من رياح التغيير، وأُطلق سراح الأصوات لتناقش ما كان محظورا الكلام فيه، بعد تحييد »مقدسات النظام«، وصدرت القرارات بإنشاء مجالس شورى، أو تمّ السماح لمعارضين (ولو مدجنين) بالتقدم للانتخابات وحتى للفوز بمقاعد معدودة تنفع في تزيين صورة الحكم وتمنحه الشهادة بأنه »ديموقراطي« نوعا ما، بدليل الاستجوابات التي تقدَّم للحكومة، والحملة على الفساد، والاتهامات القاسية لبعض أجهزة الأمن بالإساءة إلى… ديموقراطية الحاكم ورحابة صدره.
ربما لهذا تبدو بعض أصناف المعارضات العربية وكأنها أسوأ من الحكام!
وربما لهذا تحمل بعض هذه المعارضات ملامح الحكام أنفسهم، كما تستخدم منطقهم »الديموقراطي« ذاته.
في حالات أخرى تصاب المعارضة بتشوهات بنيوية نتيجة انزلاقها إلى مستنقع العصبوية الطائفية أو العنصرية أو الجهوية، وإن حرصت على إبراز عنوان سياسي »لنضالها« مفاده الخلل في بنية النظام أو النقص في تمثيله للقوى الحية في مجتمعه.
لبنان السياسي ليس خارج هذا التصنيف، فالعيب في معارضاته (إن أمكن تحديدها) أنها »فئوية« في الغالب الأعم، وبالتالي فهي قاصرة عن طرح برنامج سياسي وطني يخاطب الرغبة في التغيير في اتجاه التقدم عند المواطنين جميعا أو غالبيتهم الطامحة إلى غد أفضل.
مثل هذه المعارضات لا تخلق »حالة ثورية«، بل هي قد تأخذ إلى الحرب الأهلية، وقد تبرّر للأنظمة قمعها الدموي للمطامح الشعبية، كما في العديد من الأقطار العربية كمثل العراق أو الجزائر أو السودان الخ..
كذلك، فإن المعارضة بمنطق النظام تقزم قضية التغيير، وتقدم تزكية للقائم بالأمر… ويمكن الاستشهاد هنا بما حفلت به الانتخابات النيابية في مصر من وقائع مسيئة إلى »الأحزاب« والحركات المفترض أنها »شعبية« كما إلى من يفترض أنها تعترض عليه وتعارضه.
ربما لهذا تدوي فضيحة النظام السياسي العربية، كلما حان موعد الانتخابات في إسرائيل، إذ يتم توظيف المقارنة لمصلحة الدولة الهجين القائمة على الاحتلال والاستيطان الاستعماري والعنصرية، وللتشهير بالعرب كافة شعوبا وحكومات، كأقوام متخلفين من القرون الوسطى وعصر الظلمات.
تصبح الديموقراطية في الداخل غطاء ممتازا للجريمة الإسرائيلية ضد أهل البلاد (فلسطينيين أساسا، وعرب عموما).
فحين يُنتخب الإسرائيلي أرييل شارون ديموقراطياً تتوارى صورة سفاح المخيمات في بيروت وبطل الحروب العدوانية، ليتم التركيز على الخيار الحر للإسرائيليين، ثم يتعاقب الخبراء والأكاديميون والمفكرون في تحليل نفسية »المجتمع الإسرائيلي« وموقع الخوف من الآخرين في اندفاعه نحو المتطرف والأكثر تطرفاً! وهذه قضية فكرية شائكة كما تعرفون!
ويستطيع الإسرائيليون مواصلة التمتع بترف المفاضلة بين سفاح وسفاح طالما ظل بالإمكان إسقاط العرب كأمة من أي حساب واستسهال الاتفاق مع حكامهم الذين لا يتأثرون بآراء مواطنيهم ما داموا يحكمونهم بالحق الإلهي معززا بالسيف والدينار.
ويمكن »للرأي العام العالمي« بالتالي أن يستغرق في تحليلاته للنفسية الإسرائيلية وعقدة الخوف وشبح الهولوكوست، فضلاً عن الوعد الإلهي، مسقطا العرب من أي حساب… فهم في أي حال مجرد ضحايا، وعليهم أن يدفعوا ثمن خضوعهم لحكامهم، وثمن قصورهم عن بلوغ الديموقراطية وثمن ضعفهم الذي يؤدي دائما إلى هزيمتهم في مواجهة الدولة المتحضرة الوحيدة في صحراء القمع العربية، بدليل ديموقراطيتها: إسرائيل!
والديموقراطية الإسرائيلية ولاَّدة سفاحين (في مواجهة الخارج) ومصدر شهادة بالبراءة، دوليا، من جرائمها ضد أعدائها أعداء الديموقراطية أعداء الحضارة الغربية.
أما الديموقراطية عربيا فتكاد تقتصر على المفاضلة بين إيهود باراك وأرييل شارون… والتصويت بعدد الشهداء الذين قتلهم هذا أو ذاك.

Exit mobile version