طلال سلمان

نماذج عن صداقات اميركا عربية

من الشواهد على الركاكة في الحياة السياسية اللبنانية أن رئيساً سابقاً وصل الى منصبه الفخم بمجموعة من المصادفات القدرية (أتراها القاعدة؟) كان يتباهى بأن يردد أمام زواره: »أنتم لا تعرفون طبيعة علاقتي بالرئيس الأميركي… إنه يعاملني وكأنني ابنه، ويُخجل تواضعي بأن يجعلني في موقع الشريك في قراراته حول لبنان، ويتبنى موقفي تماماً من سوريا ومن مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية بعد إنجاز »السلام«…«.
ومعروفة الكلفة التي تكبدها لبنان بفضل التصور المراهق لرئيس المصادفة هذا، وهي كلفة أفرغت الخزينة فضلاً عن أنها ضربت وحدة اللبنانيين في الصميم وشطبت دور لبنان عربياً ثم فتحت الباب لانهيار اقتصادي شامل فاقمته من بعد المكابرة واستمرار المراهنة على شهامة »الصديق الكبير« الأقوى والأغنى، في إنقاذ »لبنان الرسالة« وفي فرض »السلام« مع إسرائيل على العرب مجتمعين.. والعصا لمن عصا!
وبرغم أن الإدارة الأميركية الحالية تعامل حلفاءها التاريخيين الكبار بتعال يصل إلى حدود الاحتقار (ألمانيا، فرنسا بل وسائر أوروبا)، فما زال بين مراهقي السياسة في لبنان من يلتفت إلى واشنطن ليستقوي بها على دولته، واستطراداً على سوريا، ويثير جدلاً عبثياً في بيروت يفاقم من شعور اللبنانيين بالضيق، خصوصاً أنه يدور خارج دائرة همومهم الثقيلة والتي تمتد من الخطر الإسرائيلي الى »الإرهاب« الأميركي الى »ضيق ذات اليد« الى انعدام فرص العمل وشلل الإدارة وخلافات أهل السلطة التي لا تنتهي والتي تدفعهم الى حافة اليأس من مستقبلهم في وطنهم.
ما لنا ولهؤلاء المراهقين في السياسة، المهزوزين في إيمانهم بوطنهم، والمتباهين »بعدم التعصب« لأرض أو هوية، والذين طالما بدلوا رهاناتهم وفقاً لاتجاهات الريح، مستخدمين دائماً ذلك الأسلوب الانتهازي الرخيص في أنهم »حلفاء الأقوى« بغض النظر عن علمه، حتى لو كان ذلك العلم نجمة سداسية زرقاء…
لنتركهم في أوهامهم يسبحون ولنلتفت الى ما أصاب ويصيب »الحلفاء الابديين« من بين العرب، للولايات المتحدة الاميركية، بدءاً بالسعودية بأسرتها الحاكمة ونظامها، قبل الشعب فيها، وصولا الى مصر بنظامها »بطل« معاهدة الصلح الاولى مع اسرائيل والموقَّعة في كامب ديفيد، وبرعاية الرئيس الاميركي كارتر، مروراً بياسر عرفات و»سلطته« التي طالما نظرت الى نفسها على انها وليدة الحماية الاميركية، وانتهاء بالنظام المغربي الذي طالما تباهى بانه »الاعرق« و»الاثبت« في الصداقة مع الولايات المتحدة الاميركية، كائناً من كان الحزب الحاكم فيها وبغض النظر عن شخص رئيسه وطبيعة ادارته، وصولا الى الجزائر وانتهاء بالاردن الذي لم يُشتهر عن نظامه التصلب في التزام الموقف الوطني او الشراسة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
* * *
ينقل بعض الثقاة عن اللقاء الاخير بين الرئيس الاميركي جورج بوش ووزير خارجية السعودية الامير سعود الفيصل، انه حفل بالعديد من المفارقات ابرزها الآتية: حاول سعود الفيصل، بداية، ان يناقش الرئيس الاميركي في موقفه الرافض بالمطلق لاي لقاء او علاقة مع ياسر عرفات، فلم يجد منه غير الاصرار على »شطب« رئيس السلطة الفلسطينية من صورة المستقبل، موجهاً اليه سلسلة من الاتهامات، التي تلامس حدود الاهانة الشخصية…
ولجأ الفيصل الى الذريعة الأخيرة فذكّر بوش بأن عرفات هو الرئيس الذي انتخبه الفلسطينيون بما يشبه الاجماع، فضلا عن كونه »رمزهم التاريخي«، لكن بوش ظل على تعنته ورفضه الاقرار »بشرعية« عرفات. وهنا قال سعود الفيصل بهدوئه المعروف وعبر ابتسامة ذات دلالة: »ليس طبيعياً، سيدي الرئيس، أن يتولى أمير سعودي إقناع رئيس الولايات المتحدة الأميركية بالديموقراطية وبأهمية الانتخابات في توكيد شرعية الحاكم«!
المفارقة ليست في هذا »الحوار«، بل في ان النظام السعودي، برموزه الملكية كافة، فضلاً عن الشعب، هو في موقع الاتهام، بل ان الأمر تجاوز في الأيام الأخيرة توجيه الاتهامات الى الإدانة المسبقة والثقيلة الوطأة ماديا وليس معنويا فحسب.
ولسوف نشهد ذروة هذه الحملة الضارية، والمستمرة منذ بعض الوقت، في احتفالات الذكرى الأولى لضحايا تفجيرات 11 أيلول، والتي يمكن اعتبار الدعاوى التي رُفعت أو ستُرفع ضد »المملكة الصديقة« وضد رجالاتها من ذوي الحظوة، وبينهم بعض كبار العائلة المالكة (الأمير سلطان)، مجرد تمهيد، والتي لن تتوقف عند حدود التشهير السياسي ومحاولة تجويف النظام عن طريق إجباره على ضرب مرتكزاته المؤسساتية (شبه الدينية) في الداخل، بل ستطال ثروات البلاد، مدخراتها واستثماراتها وتوظيفاتها المالية في المصارف والشركات وصناديق الزكاة والجمعيات الخيرية جميعا، وهي بالكاد تكفي لما يطالب به الأميركيون من تعويضات مباشرة لضحايا التفجيرات التي يحمّلون مسؤوليتها بالكامل للدولة في السعودية ولمواطنيها جميعا، ملكيين ورعايا..
***
فأما النظام المصري فإنه يتعرض حاليا لحرب أميركية شرسة لا تعف عن استخدام أي سلاح ضده: من »مسألة تجسس« ابراهيم سعد الدين الى محاولة استعداء النظام السوداني مجددا الى العقوبة المباشرة بوقف مساعدة خاصة قيمتها مئة وخمسون مليون دولار.
لقد حولت واشنطن هذا »الباحث« المشبوه دوره والمريبة الدراسات التي يكلف بها فرقا من أساتذة الجامعات والدارسين، بأجور عالية تدفع من موازنات لم ينكر أحد أنها تأتي »كهبات« و»مساعدات« من دوائر أميركية محددة، الى »بطل للحريات« وكادت تجعله شهيدا للحرية الفكرية، وشاهدا على دكتاتورية النظام المصري وعسفه.
وها هي تصعّد حملتها على النظام المصري محاولة إرهابه فتجمد »المساعدة الطارئة«، ثم ترعى اتفاقا أشوه بين النظام السوداني (الذي كان على قائمة الأعداء الى أن »اهتدى« فباع الإسلام والشريعة ومن كانوا يُعتبرون مناضلين ضد الامبريالية الأميركية) وبين عدوه اللدود جون غارانغ، لإقامة نظام ثنائي القومية والدين والدستور يرجّح أن ينتهي بانفصال جنوب السودان عن شماله… وكل ذلك من خلف ظهر مصر، وعلى حساب أمنها القومي، وبما يهدد شريان حياتها ممثلا بالنيل (فضلا عن علاقاتها التاريخية الطبيعية والثابتة مع السودانيين، شمالا وجنوبا).
ليس هذا فحسب، بل إن النظام السوداني، مستقويا بالدعم الأميركي المعلن، عاد الى تحريك مطالبته بمنطقة حلايب الحدودية، مفتعلا أزمة جديدة من شأنها أن تشغل الناس عن اتفاقه الجنوبي المشبوه، والتي كان التقصد الأميركي معلنا في إبعاد مصر (ومعها ليبيا) عنه، ثم في إلزامها بالموافقة عليه، فإن أحرجتها الموافقة فعليها بالصمت وإلا…
لا ضرورة للتذكير هنا بما وجهته واشنطن الى مصر، بنظامها وشعبها، من إهانات علنية جارحة، في ما يتصل بالمسألة الفلسطينية.
لم تكتف إدارة بوش برفض إلحاح مصر عليها بضرورة التعامل مع عرفات بوصفه الرئيس الشرعي المنتخب والرمز الوطني للفلسطينيين، بل هي حصرت لها دورها بأن طالبتها بالضغط لوقف الانتفاضة الفلسطينية، ثم »تكرمت« عليها بأن عهدت إليها (ومعها الأردن) بواحدة من »المهمات القذرة« وهي إعادة تنظيم الشرطة الفلسطينية (تحت اشراف المخابرات المركزية الأميركية) بما يجعلها جهاز حماية داخلية للاحتلال الإسرائيلي، يقاتل رجالُه المناضلين الفلسطينيين ويعتقلونهم أو يقتلونهم لتوطيد أمن الاحتلال وتثبيت المستوطنات وقطعان المستعمرين المتوحشين الذين يشكلون الجيش الإسرائيلي الرديف الأعظم شراسة ودموية من »الجيش النظامي« المرهف الحس الإنساني!
ماذا يعني هذا؟!
يعني ان مصر محاصرة ومهددة من شمالها ومن جنوبها، ومن »فوق«، أي من الولايات المتحدة الأميركية: لا دور سياسياً في فلسطين ومن ثم على المستوى العربي، وجل ما تكلف به مهمة قذرة في تولي حماية الاحتلال الإسرائيلي، ولا دور سياسياً في السودان (وما خلفه في أفريقيا)، بل وعليها ان توافق على ما تقرره له وفيه واشنطن مما يهدد أمنها الوطني وحياة شعبها،.. أي، ببساطة، لا دور عربياً، ولا دور أفريقياً، ثم انها غير حرة في الداخل، ان هي حاسبت بعض مواطنيها حقاً أو ظلماً ممن لهم صلات »غير طبيعية« مع دوائر أميركية، تعرّض نظامها (وشعبها) لعقاب صارم قد يصل إلى التلويج بتجويع مصر!
***
فاما بين المغرب والجزائر، وبمعزل عن الحقوق التاريخية و»الاطماع« وسلامة السياسة أو خطلها، فإن الولايات المتحدة الأميركية تتولى الآن مهمة »تنظيم« الحرب المفتوحة بين البلدين الشقيقين بسبب موضوع الصحراء.
ثم ان الولايات المتحدة في صلب الخلاف الذي انفجر فجأة بين المغرب واسبانيا على »صخرة« ليلى، التي كان يرعى فيها الماعز، وهو الخلاف الذي تولت واشنطن انهاءه فجأة ذات ليل… ومن خلف ظهر الماعز!
فأما الأردن الذي لم يُشتهر عن نظامه الاعتراض أو المقاومة أو التأفف مما تقرره الإدارة الأميركية، فأقل ما يقال في السياسة الأميركية ضده انها تتقصد إذلاله، مستخدمة أسلحة فتاكة شتى من التطويع إلى التجويع، فضلاً عن الحاحها عليه بضرورة ان يتولى »المهمة الاقذر« في المساعدة على اخضاع الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي.
***
هنيئاً لمن كان خارج قائمة أصدقاء أميركا وحلفائها من العرب

Exit mobile version