طلال سلمان

نقاش مع كوفي انان في امم متحدة قرار في واشنطن لا في مجلس امن

نيويورك …
لم يكن كوفي أنان مستعداً لأن يجيب على سؤال ساذج من نوع: الآن، وبعد كل الذي جرى للعراق وفيه، هل تحس بعقدة ذنب؟ هل كان بوسعك كأمين عام أن تفعل أكثر، ولو بالاستقالة؟! وهل كان بوسع الأمم المتحدة وبالتحديد مجلس الأمن، أن يمنع حرب احتلال لدولة مؤسسة، ثبت من بعد وبالدليل القاطع أن الذرائع التي قدمت لتبريرها لم تكن صحيحة؟!
لدى أنان جعبة ملأى بالأجوبة الجاهزة (والمدروسة) لتبرير المواقف التي يصعب قبولها عند من ما زال يفترض أن الأمم المتحدة هي المرجعية الشرعية للقرار الدولي.
لقد أعد نفسه جيداً لهذا اللقاء مع مجموعة منتقاة من الصحافيين العرب جيء بهم خصيصاً ليسمعوا مرافعة دفاع شاملة، بألسنة نخبة من مساعديه الكبار ومسؤولي المنظمات المتعددة والتي تغطي كافة الاهتمامات والهموم الإنسانية من الإغاثة إلى قوات حفظ السلام ومن مرض الإيدز وأوضاع المرأة إلى آلية القرار في مجلس الأمن، ومن القضية الفلسطينية بأصلها وتفرعاتها وصولاً إلى جدار الفصل العنصري الذي تبنيه حكومة أرييل شارون الإسرائيلية، إلى الموضوع الذي يكاد يكون الآن محور أي نقاش، ومن ثم أي قرار: الإرهاب ومسؤولية الدول جميعاً عن مكافحته.
لكن أسئلة الصحافيين تتجاوز »الشخص« إلى دور المنظمة المرجع في عالم القطب الأوحد، وبالاستطراد دور أمينها العام، الذي جاءها من غانا نكروما (سقى الله أيام زمان)، وتدرّج في وظائفها حتى اعتلى المنصب الخطير الذي يراه البعض أشبه ب»رئيس لحكومة العالم« في أنه يرى شخصياً أنه »منسق« بين مواقف الدول، مهمته الإشراف على تنفيذ ما يتخذ من قرارات في مركز القرار: مجلس الأمن الدولي.
* * *
المبنى الأنيق المن زجاج ما زال ينتصب بزرقته المميزة عند حافة نهر هدسن الذي يجيء نيويورك من البعيد ليصب في المحيط الأطلسي عند قدمي تمثال الحرية، غير بعيد عن موقع »التفجير الذي غيّر العالم« ومسح برجي التجارة العالمية عن سطح الأرض.
لكن نيويورك لم تعد هي هي، ولا الولايات المتحدة الأميركية الآن هي التي كانت من قبل، لا عند تبرعها باستضافة المنظمة الدولية التي ولدها الانتصار على »دول المحور«، في الحرب العالمية الثانية، لتكون »داراً للسلام«، ولا تلك التي عرفها العالم حتى 11 أيلول 2001: لقد دُمِّر البرجان على رؤوس من كان فيهما، وتبدت الدولة العظمى القطب الأوحد، في صورة »الضحية« لأول مرة في تاريخها فاندفعت »بمشروعية« الانتقام تفرض منطقها، مغيّبة إلى الأبد صورة »عالم عالمي« متعدد مراكز القوة مراكز القرار، ليسود العالم الأميركي الجديد بقراره المفرد.
لكأنما مع تدمير البرجين سقط المعنى عن هذا المبنى. لم تعد الأمم المتحدة مشروع »حكومة العالم متعدد الأقطاب«، تستضيفها الولايات المتحدة، مع الحرص على حصانتها. لقد باتت المؤسسة الدولية رهينة »الأرض« الأميركية ومن ثم »القرار« الأميركي، وأي تمرد يهدد بانحطام زجاج المبنى الأنيق على رؤوس ممثلي »الدول« التي كانت كثرتها الفقيرة ذات يوم قد بدأت تشكل »مشروع قوة ثالثة« تميل أقله بعاطفتها إلى »المعسكر الاشتراكي« الذي انهار بصورة دراماتيكية فقدمت تزكية خارقة للنظام الأميركي، من أبسط تفاصيل نمط الحياة، إلى توكيد هيمنته المطلقة على العالم، الذي اختفى منه »الأنداد« مدحورين من داخلهم.
* * *
كان بديهياً أن يتركز النقاش مع الرجل الدمث ذي الصوت الخفيض والذي يتهمه البعض بالدهاء، حتى وهم يأخذون عليه ضعفه، حول الجرحين العربيين المفتوحين: فلسطين والعراق…
» إنني لأشعر بالأسف والغضب بسبب الكوارث في فلسطين وإسرائيل. إن فلسطين قضية مفتوحة أمام الأمم المتحدة منذ قرار التقسيم في العام 1947… أما العراق فيشغل هذه المنظمة منذ الثمانينيات. في فلسطين لم نستطع وضع حد للعنف، والقرار ليس في الجمعية العامة، وليس لدى الأمين العام، بل في مجلس الأمن«.
… ومجلس الأمن تبدل بدوره، بل وأكثر بكثير مما تبدلت الجمعية العامة. نظرياً ما زال حق الفيتو حكراً على الدول الخمس »الكبار«، لأن التطورات شطبت الاتحاد السوفياتي روسيا، وغيّبت الصين، في ما التحقت بريطانيا بالأميركيين، واجتهد الفرنسيون في تمييز أنفسهم ثم انتهت محاولتهم إلى التسليم بوحدانية القرار، ومن ثم وحدانية الفيتو الأميركي.
يعترف كوفي أنان أن مجلس الأمن لم يخوّل الولايات المتحدة الحرب على العراق، ولكنها ذهبت إلى الحرب من خارج »الشرعية الدولية« واحتلت العراق، فصار همّ المنظمة الدولية حماية حق الشعب العراقي في تقرير مصيره… لكن الأمم المتحدة تحولت إلى هدف للإرهاب في العراق »وخسرنا رجالاً ونساءً ممتازين«.
يضيف أنان: إن نهجنا في العراق يتركز على إحداث توافق في الرأي بين العراقيين وتأمين أفضل الآليات لنقل السلطة إليهم، وتمكينهم من أن يعيدوا بناء بلادهم… وعلى جيران العراق تقديم يد العون… وسأذهب إلى القمة العربية المقررة في تونس لألتقي القادة العرب وأناقش معهم أفضل السبل لمساعدة العراق.
عبر النقاش عاد أنان يؤكد: لم تصرح الأمم المتحدة ولم يصرح مجلس الأمن بالحرب على العراق. الحرب والقرار بالحرب اتخذتهما مجموعة من الدول تقودها الولايات المتحدة الأميركية، خلال النقاش قبل الحرب بيّنتُ أن الحرب لا تتماشى مع الشرعية. كان هذا هو موقفي، ولكنني مضطر لأن أتعامل مع الواقع. نعم العراق هو الآن تحت الاحتلال.. هل كان بإمكاننا أن نتعامل مع الأمر بشكل مختلف؟ حاولنا أن نصدر قراراً آخر، أن نمهل المفتشين لفترة أطول، لكن من قرر الحرب ذهب إليها.
في مسألة استثناء إسرائيل من التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل يأتي جواب أنان لافتاً: إسرائيل لم توقع على معاهدة حظر هذه الأسلحة. ولا قرار من مجلس الأمن بخصوصها.
مع فلسطين تظل القرارات داخل الفصل السادس، أما مع العراق فالقرار اتخذ بموجب الفصل السابع الذي ينص على العقوبات وعلى التنفيذ بكل الوسائل:
»سمعنا ان رئيس الحكومة الإسرائيلية اقترح الانسحاب من غزة.. لكن الأراضي المحتلة والمعنية ليست فقط غزة. عندنا الرباعية، وخريطة الطريق التي اقترحتها الإدارة الأميركية..«.
يدوي سؤال من خارج النص: ولكن، لماذا شاركت الأمم المتحدة مع الاطراف الثلاثة الأخرى، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وروسيا. يفترض انكم هنا »مرجعية«، ولستم طرفاً. إنهم لم يأتوا إليكم. لقد ذهبت بشخصك إليهم، وباتت الأمم المتحدة واحداً من أربعة، مما ينزع عنها صفة المرجعية..
يرد بغير ارتباك: لقد انخرطنا في الرباعية لنعمل بشكل جماعي.
نعود إلى العراق فيقول أنان: لقد اكتشفت الولايات المتحدة التي ذهبت إلى الحرب منفردة انها مضطرة للرجوع إلى الآخرين والتشاور مع العالم، عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتنفيذ المهام التي لا يمكنها ان تنفذها بمفردها.
مع احتدام الجدل، يرفع الرجل الخفيض الصوت صوته: أي تقويض للسلطة الفلسطينية يقوض جهود السلام في الشرق الأوسط. لا بد ان نوفر الحل، مع الاطراف المعنية »في الداخل«، وبعدها يمكن للاطراف الخارجية ان تساعد. في بعض الاحيان يُساء فهمنا في المنطقة. اننا نقول ونفعل أكثر بكثير من أي طرف آخر. ولكي يطمئن القلقون من بينكم أعلن هنا اننا سنواصل الدفاع عن الضعفاء والمقهورين.
ثم يعود إلى العراق: لقد اوفدت فريقاً قاده الأخضر الإبراهيمي، وحظي باستقبال جيد من جميع الأطراف، ونحن على استعداد لايفاد الفريق مرة أخرى من أجل التشاور حول صيغة لنقل السلطة بالتوافق مع جميع الأطراف.
يختم أنان الحوار: لقد كان هناك كثير من الغاضبين داخل هذا المبنى. ولقد مرت علينا فترة عصيبة اصيبت فيها الأمم المتحدة بالشلل. على اننا الآن نكاد ننهي فترة المعاناة.. وها نحن نتحرك لكي نساعد العراقيين على اقامة حكومة أو سلطة يختارونها.
* * *
قبل ساعات من اللقاء مع كوفي أنان اقتادنا دليل لنشهد جلسة لمجلس الأمن، تصادف انها كانت مخصصة لمناقشة تقرير أعدته »لجنة
مكافحة الإرهاب« التي كان أنشأها المجلس في فترة سابقة.
كان النصاب مكتملاً، وكانت الأصوات موحدة في ترديد النشيد الموحد حول »الإرهاب«، وإن كان كل طرف يعني »الإرهاب« الذي يتناوله، من اسبانيا (رئيس اللجنة) إلى الصين التي فقدت الكثير من وهجها »الثوري« وتوحدت لغتها في هذا المضمار مع اللغة الأميركية، إلى الجزائر (وهي ممثل العرب الآن في مجلس الأمن، بعدما انتهت ولاية سوريا)، فإلى انغولا وسائر الأفارقة. لكل »إرهابه« الخاص، وإن ظل القرار أميركياً«.
لا مجال للتحفظات والتمييز وإعادة استخدام كلمات مهجورة، مثل حق الشعوب المقهورة في المقاومة، من أجل تقرير مصيرها، أو لرد عدوان يستهدف وحدتها أو استقلالها الوطني.
… والأنظمة الاضعف هي الأعلى صوتاً في الهجوم على »الإرهاب«، وهي في الغالب الأعم تعني »معارضيها« أكثر مما تعني أسامة بن لادن أو صدام حسين أو من تبقى من التنظيمات القائلة بالكفاح المسلح في أربع رياح الأرض.
نيويورك بلا البرجين هي مدينة أخرى لا تتسع »لحكومة عالمية« غير تلك التي في واشنطن والتي لها وحدها القرار.
وكوفي أنان يعرف ذلك جيداً، وربما لهذا قد نجح في تخطي الأيام الصعبة، أيام كان في هذا المبنى الكثير من الغاضبين.
وكذلك فإن الأخضر الإبراهيمي يعرف ان تأشيرة النجاح في العراق تصدر من البيت الأبيض، وبعدها يمكنه الذهاب إلى النجاح في بغداد.

Exit mobile version