طلال سلمان

نظام لبناني انتفاضات ودور جامعة دول عربية

المقارنة موجعة بين ما تشهده الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، من انتفاضات شعبية تكاد لا تغادر الشارع إلا لتعود إليه، وحركة جدل فكري وسياسي تحاول تجاوز الواقع بكل التردي والخمود والعقم، وسائر علامات الغربة عن العصر التي فرضها «النظام القديم» المتساقط في الشارع، على «شعبه»، وبين تفاهة الحياة السياسية والطبقة الحاكمة، من موقع السلطة كما من موقع المعارضة.
لكأن هذه الطبقة السياسية محدودة الثقافة وناقصة التجربة غريبة عن العصر وطارئة على العمل السياسي فضلاً عن خوائها الفكري، لا تعرف أو لا تريد غير أن ينساها العالم أو يتجاهل جهدها لشطب «الشعب» و«الدولة» أو حتى الدور الذي كان للبنان كمنتدى فكري ودار نقاش وملتقى المهمومين بمستقبلهم من الناشطين العرب المسكونين بهمّ الغد، ولا تستبقي من هذا الوطن الجميل إلا الملهى والمقهى والعقار والأبنية الفخمة المشادة خصيصاً لغير أبنائه… اللهم إلا من عمل مع أو لحساب أصحاب المال الأسود أو الأصفر أو الأبيض (حتى لا ننسى الغاز)، والذين يأتون إليه للتداول في مختلف الشؤون إلا ما يعني، مباشرة، رعايا نظامه الفريد.
والطبقة السياسية لم تعد معنية بالشأن العام وإن ظلت السلطة هدفها بما هي الطريق السريع إلى النفوذ والكسب السريع والعلاقات العامة التي يتداخل فيها دور السمسار مع الوسيط مع مبتدع الحلول السهلة للمسائل المعقدة وأولها التحايل على قوانين تبييض العملة، وتهريب المال الحرام من حيث تهدده الثورات إلى «الملاذ الآمن» في الخارج…
لا بد، إذن، من «الطريق السريع»، أي الطائفية ومشتقاتها وأخطرها المذهبية، والتي اتسعت أسواقها، عربياً، الآن، وازدهرت تجارتها وفاضت أرباحها عن كل ما كانت تحققه العقائد والأفكار والشعارات الثورية في زمن دكتاتوريات الذهب الأسود التي تتساوى في مجال ضمان السيطرة باختلاق مدى حيوي لنفوذها خارج البلاد التي تحكمها بالسيف والذهب مع تلك الدكتاتوريات المحصنة بالدين والفتاوى الجاهزة لتكفير المعارضين وتحدي العرف بالسماح للنساء بقيادة السيارات، فكيف بالخارجين على النص المقدس والمخرجين من دائرة الانتفاع بالذهب؟
[ [ [
في لبنان «خبراء محلفون» في تحويل العصبيات، طائفية أو مذهبية، أو حتى جهوية، إلى مراكز نفوذ سياسي وإلى استثمار عجائبي، الربح، خصوصاً أن النفوذ قابل للتحويل إلى كل العملات، ولا يتأثر بتقلبات البورصة.
وهكذا يمكن تحويل العمل النقابي إلى استثمار وحقوق الأساتذة في الجامعة الوطنية والعمال والأجراء وموظفي الدولة المغبونين في مرتباتهم إلى استثمار يجدد شباب الزعامات.
ولأن «العرب»، أنظمة وشعوباً، مشغولون بتطورات الأحداث في أقطارهم ذات الدور، فقد خلا الجو للطبقة السياسية في لبنان أن تلعب على الأوتار جميعاً، الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، معززة بذلك مواقعها باعتبارها أخطر ضمانات الاستقرار… وللاستقرار ضريبة لا بد من دفعها لإدامته!
ثم أن «العرب» أقلية في جامعة الدول العربية..
أقلية، بدليل أن القرار في شؤونهم ليس في أيدي قادة هذه الدول المنضوية في الجامعة العربية… وهذه مأساة ليبيا تقدم البرهان المخزي الذي سيطارد هذه الأمة بمقدار ما طاردها غياب «قادتها» حكام الدول العاجزة عن القرار الدولي بشأن فلسطين قبل ستين عاماً أو يزيد قليلاً..
لقد لعبت الجامعة العربية دور «المحلل الشرعي» للتدخل الدولي في ليبيا، ووفرت للغرب بالقيادة الأميركية أن يستند إلى فتواها لكي يكلف الحلف الأطلسي بتولي مهمة نصرة الثورة على الطاغية حتى قتله، وتحرير الشعب ذي التاريخ العربي العريق في مقاومة الاحتلال الأجنبي من أثقال ثروته النفطية جلابة القلق!
وها هي الجامعة الآن تنتدب نفسها لمهمة تعرف أنها لا تستطيع القيام بها، فلا هي مرجعية قادرة تقرر فيلتزم الجميع، ثم ان الممثلين الجدد للأنظمة قيد البناء لا يعرفون كيف يعالجون مشاكل الغير بينما هم ما يزالون حائرين لا يعرفون من أين يبدأون وكيف وبأية قدرات لإزالة أنظمة الطغيان التي أخرجت الشعوب التي قهرتها بالقمع من التاريخ.
[ [ [
مصر مشغولة بحسم الصراع بين النظام الذي أسقطت الانتفاضة رأسه لكن هيكله الثقيل باق يكاد يشل حركة الثوار الذين فوجئوا بهشاشته وسقوطه المدوي الذي سبق استعداداتهم لصياغة البديل في بلاد تكاد الدولة أن تكون شرط وجودها،
وتونس تحاول استكمال شروط إعادة بناء الدولة وسط صراع أمكن لوعي القيادات السياسية العائدة من المنفى أو الخارجة من السجن أن «تضبطه»، حتى الساعة، في الإطار الديموقراطي وسط تخوف معلن من «إسلامية» حركة النهضة التي كسبت أكثرية المقاعد في المجلس التأسيسي الجديد ولكنها لا تريد ولا تقدر حتى لو أرادت أن تحكم وحدها البلاد ذات «التقاليد المدنية» التي فرضت لإخراج الدين (وأحزابه) من دائرة التأثير السياسي.
وسوريا قد تحولت من مرجعية في حكم الاستقرار إلى بؤرة اضطراب تستأخر قيادتها الإصلاح حتى عودة الهدوء إلى الشارع، وهو موعد معلق على صيغة التغيير وحدوده، في حين تندفع المعارضات المتعددة التوجهات، والمتفاوتة في أوزانها إلى طلب الاعتراف الدولي بها، بل ويكاد بعضها يتجاوز الحد في الاستقواء بالخارج إلى حد القول بالحماية الأجنبية.. (من باب الطرافة يمكن استذكار التسلم والتسليم بين الحكم الانتقالي في ليبيا وبين المعارضة السورية في الخارج لمبنى السفارة السورية ـ المحررة ـ في طرابلس الغرب..).
أما العراق فمغيّب عن دائرة القرار، تجتهد حكومته المنقسمة قواها المستجدة على الحكم أن تحفظ ـ وسط انقسامها ـ وحدة كيانه في ظل الصراع المفتوح بين الاحتلال الأميركي الذي يتهيأ للمغادرة وبين «مكوناته» الطائفية المموهة بالتحزب السياسي و«عناصره» العرقية، وأبرزها «الأكراد» الذين استقلوا بإقليمهم واندفعوا يوسعون مداه الجغرافي ولو بطرد «الأقليات» فيه، وبينها من كان ضمن الأكثرية أو في فيء عروبتها بوصفه عنصراً تأسيسياً في الوطن ثم في الدولة.
المغرب بعيد بعيد، يغزل إصلاحه الملكي مستفيداً من عزلته التي لن يغريه في الخروج منها العرض الذهبي الذي قدم إليه لضمه إلى مجلس التعاون الخليجي.
أما الجزائر فيبدو أنها تمر بفترة مخاض عسير إذ يرتبط احتمال التغيير فيها ليس فقط بالهجمة الانتقامية المحتملة للإسلاميين الذين فازوا فعلاً في مرحلة الانتخابات، قبل عشرين سنة، فألغيت الدورة الثانية وانتهى الأمر بالفائزين إلى السجن أو المنفى… مع الإشارة إلى أن مطالبة البربر ـ الأمازيغ ـ بشيء من الحكم الذاتي أو الفيدرالية قد وجدت تزكية مجانية لها في الانشقاقات الجهوية بين الشرق والغرب تحت لافتة موقع الشاوية في السلطة.
لا داعي لاستذكار اليمن الغارق في مأساته الوطنية التي لا تبدو لها نهاية إنقاذية قريبة، في حين تتزايد المخاطر على وحدته بل على دولته المهددة بالانقسام إلى حد التشرذم في دويلات أو دوقيات بعدد العشائر فيها.
[ [ [
كيف يمكن للجامعة العربية، بدول تعيش القلق على كياناتها، أو الخوف من تفجر الحروب الأهلية فيها، وانتكاس الثورات حيث أمكنها إسقاط الطغيان وباشرت «الجهاد الأفضل» من أجل إعادة بناء الدولة، أن تكون مركزاً للقرار حول مختلف الشؤون العربية، وبالذات على العلاقة بين الشعب والنظام الحاكم في أي من الدول المنضوية تحت لواء هذه الجامعة التي طالما أمِل العرب أن تكون مرجعيتهم القومية لكن واقعها جعلها أعجز من أن تكون وسيطاً فكيف لها أن تكون مصدر القرار الملزم.
مع ذلك فقد يكون ضعف الجامعة السبب في قبولها كوسيط محلي، فهي تختزل دولاً كبيرة خارجها، ويمكنها أن تكون المحلل الشرعي للحل الذي كان مرفوضاً!
أليس في هذا التوصيف للواقع العربي ما يعزز موقع النظام الذي يلغي الدولة في لبنان ليعزز دور الطبقة السياسية في الهيمنة على القرار فيه باستخدام الطائفية والمذهبية لتحويل الشعب إلى رعايا، والادّعاء أنها تكاد تكون وحدها العصية على السقوط بالثورة أو الانتفاضة الشعبية؟
ربما لهذا لا يجد اللبنانيون مفراً من التسليم بتسلط هذه الطبقة التي تضع الوطن الصغير، دائماً، على حافة الحرب الأهلية، فتتبدى في صورة المنقذ في حين أنها مصدر البلاء.
… في انتظار أن يبادر مجلس التعاون الخليجي إلى رمي عباءته على النظام مجتمعاً بدلاً من التعامل مع الطوائف والمذاهب.. بالمفرق!!

Exit mobile version