طلال سلمان

نظام فريد وشوارعة كثيرة

تطرح الأزمة السياسية الحادة التي يكاد اللبنانيون يختنقون في ظلالها الوارفة مجموعة من الأسئلة التي يفترض أن التجارب المحن التي عاشوها قد وفرت الأجوبة الحاسمة عليها، وبالتالي فلا ضرورة لتكرارها الذي يسيء إلى سمعة ذكائهم الخارق.
بين ما تعلموه، وأحياناً بدمائهم الزكية:
? لا يحكم لبنان قهراً، ويستحيل على طرف واحد الإمساك بالسلطة فيه منفرداً، أو بثنائية تتخذ طابع التواطؤ على الآخرين.
وما دام النظام السياسي توافقياً بالضرورة بسبب من التركيبة السكانية الطوائفية فإن لأصغر الطوائف أو المذاهب حق النقض (الفيتو).
? منذ قيام دولة لبنان الكبير وحتى جمهورية الطائف كانت الحياة السياسية تغتني بحركات اعتراض ومعارضة للحكم القائم، قد تعجز عن تغييره وقد تنجح في تعديل سياساته ولكنها كانت دائماً شرعية ومشروعة وعلامة صحة تخالف المألوف إذ تدجّن المنحى الطائفي فتقرّبه من التعبير الديموقراطي، طالما أن اللبنانيين المهرة قد أبدعوا فاخترعوا نوعاً جديداً من الديموقراطية التوافقية، بمعنى أنها تلك التي تحفظ للطوائف جميعاً كرامتها عبر تمكينها من نيل حقوقها في كعكة النظام.
? النظام اللبناني يمتلك من أسباب القوة أكثر مما يقدر خصومه، ولعل هذا بين أسباب يأس الأجيال الجديدة من تغييره أو تعديله بما يرضي طموحاتهم. ولأنه توافقي فلا يمكن إسقاطه. ولعل هذا ما يفسّر استحالة الانقلاب العسكري فيه لأن تنفيذه يحتاج إلى مجلس ملي من الضباط متعددي الطوائف والمذاهب وليس إلى مجلس قيادة الثورة .. المستحيلة.
? هذا النظام مثل الغول يأكل أبناءه ليتقوى ويتغذى ويستمر.. وفي المحاولات المحدودة التي تصدت لتغييره كان يضحي برأس السلطة فيه أو يفتدي نفسه به، ويخرج من أزمته أقوى مما كان.
لنتذكر قصة إسقاط الشيخ بشارة الخوري، بطل الاستقلال وأول رئيس لدولته، الذي افتقد فجأة من يرضى بأن يكون رئيساً لحكومته، فارتضى أن يخلي الموقع بكرامته.. وحفظ له اللبنانيون أنه لم يجرّب المكابرة فوفر عليهم خطر التصادم الأهلي، وتمّ الأمر دون إهدار نقطة دم واحدة.
ولنتذكر قصة رحيل كميل شمعون من قصر الرئاسة بعد فشل محاولاته لتجديد ولايته، وأن الأسطول السادس الأميركي الذي أنزل قوات المارينز على سواحل بيروت، اثر انفجار الثورة في العراق الملكي (تموز 1958) قد رفض أن يحمي استمراره على رأس السلطة، برغم كونه صديقاً مخلصاً لواشنطن.
نستعيد هذه الوقائع أو الدروس المستفادة من تجارب سابقة بينما تصل المواجهة بين السلطة ممثلة بالحكومة البتراء وبين المعارضة التي يتهمها خصومها بنقص في تمثيليتها الطوائفية، إلى ذروة احتدامها، ويبدو أن اللبنانيين قاب قوسين أو أدنى من المواجهة بمنطق شارع مقابل شارع .
و الشارع في لبنان ليس كأي شارع في أية عاصمة في الدنيا.
الشارع في لبنان دول كبرى وصغرى، ومصالح يختلط فيها المحلي بالعربي بالأجنبي… حتى في الزواريب يمكنك أن تجد أثراً للسفارات والقنصليات، ولو موّهت صورتها بادعاءات تبدأ عظمى مثل حماية النظام الديموقراطي وتنتهي بادعاء الحرص على التوازن القائم والذي يجب أن يكون دائماً بين حقوق الطوائف في السلطة.والسفارات هي هي القنصليات أيام الإمارة المعنية ثم الشهابية ثم أيام المتصرفية، وقد ارتقت الرتب وجرى تبادل للمواقع فانخفضت مراتب وتسامت مراتب بحسب قوة الدول، وحجم مصالحها بتأثيراتها المباشرة على أهل الحكم، من دون المس بالنظام.
ولأنه لبنان بأوضاعه الخاصة، وبنظامه الفريد، وبتوافقاته الطوائفية فقد بات الجميع يسلمون بدور السفارات في السياسة الداخلية، كما أن السفراء يتصرفون براحة وكأنهم في بيوتهم ، بل ربما أكثر، حتى مع وعيهم بأن حركتهم قد تسبّب إزعاجاً لبعض القوى، ولكنهم يفترضون أن الإزعاج لن يرقى إلى أي مستوى إجرائي. أبسط دليل أن العديد من السفراء الغربيين يقاطعون رئيس الجمهورية وهم معتمدون لديه، هو من يقبل أوراق اعتمادهم (وقد يرفضها) وله أن يطلب من حكوماتهم سحبهم لأنهم معتمدون منه، وهو صاحب القرار في وجودهم أولاً وأخيراً.
لكن السفارات لا تملك حلولاً، وهي قد تفيد من الانشقاقات في البلاد لأنها تعطي السفير أي سفير هامش حرية أوسع بكثير، وقد تجعله شريكاً في القرار، إن تجنبنا اتهام بعض أصحاب السعادة بأنهم قد يتحولون إلى مصدر للقرار.
تبقى ملاحظة داخلية مفادها: لم تكن المعارضة بحاجة إلى هذا الدعم الذي تبرع به رئيس الجمهورية داعياً الموظفين إلى الامتناع عن أداء وظائفهم التي هي واجب يتقاضون عليه أجوراً يدفعها المواطنون من قوت أولادهم.
فليست المعارضة عصياناً وليست خروجاً على الدولة ونظامها ودستورها وقوانينها. إنها حركة احتجاج سياسي لها مطالبها المعلنة التي قد يوافق عليها جمهور عريض يرى أنها تلبي احتياجاته وقد يعترض عليها جمهور السلطة لأنه قد يرى فيها مشروعاً انقلابياً يتجاوز الحكومة إلى النظام… برغم وعيه أن الانقلاب مستحيل، وبرغم أن ذاكرته ما تزال تختزن مواقفه أيام كان هو في موقع المعارضة.
أخطر ما في هذا الوضع القائم اختفاء الوسيط الصالح ، فالدول بمواقفها المعلنة أو المضمرة تمتنع أو أنها لا ترغب بمثل هذا الدور، ربما لأن لها توقيتها الخاص… ثم إن الدور التوفيقي المتميّز الذي لعبه رئيس المجلس النيابي قد تمّ تعطيله.
مع ذلك، من يدري؟! لعل معجزة تقع فتعفي اللبنانيين من مواجهة مكلفة ولكنها ستنتهي في آخر المطاف بتسوية سياسية ذات قاعدة توافقية وإن حملت تسميات تكثر فيها كلمات الوطن والوطنية والوحدة الوطنية.
طلال سلمان

Exit mobile version