السلطة في لبنان فاقدة الشرعية. فألغت القوانين والدستور. لم تستطع أو لم ترد حماية الملكية الخاصة التي هي الأساس الذي قام عليه النظام اللبناني. ولم توفر شروط التجارة الحرة وحرية تحويل العملة. وذلك هو الأساس الثاني للنظام.
تقوّضت أعمدة الهيكل. فقدان الشرعية ليس مسألة أغلبية في مجلس النواب أو مجلس الوزراء أو وجود رئاسة الجمهورية. سلطة بمجملها خالفت قوانين الملكية الخاصة للأموال والأملاك، وهذه مقدسة في الدستور. فكانت عملية حجز أموال المودعين في المصارف والسطو عليها. لم يعد أي مواطن لبناني يستطيع الوصول الى ما يملك. فقد وقفت المصارف بينه وبين ما يملك بدعم وتوجيه من السلطة السياسية. سلطة اختارت أن يفلس المواطن برغم أنه يملك، وأن لا يفلس المصرف برغم أنه لا يملك. هي عملية من التراكم البدائي القائم على النهب وسلخ الملكية الخاصة من دون رادع أخلاقي؛ الأهم أنه دون رادع قانوني. حماية الملكية، وحرية التحويل، وحرية التجارة منصوص عليها في الدستور. لم تفلح الرئاسة الأولى في حماية الدستور. ولم تفلح الرئاسة الثانية والثالثة في تطبيق القانون. تستخدم الأجهزة الأمنية للقمع، والسلطة السياسية لحماية المرتكبين في وجه القضاء، وحماية المصارف في مصادرة أموال الناس؛ كلها جرائم يعاقب عليها القانون.
انتهكت القوانين في لبنان، فلا تحقيقات جريمة المرفأ وحوادث الطيونة وغيرها تصل الى نتيجة، بل تُمنع من الاستكمال، ويمنع الوزراء وأزلام السلطة من المثول أمام القضاء. فالقانون لا يسري عليهم. وهم أرفع من ذلك. في الليبرالية يتساوى الجميع أمام القانون. إلا في النظام اللبناني، فالمساواة مؤجلة في وقت ينهار الجسم القضائي والأجهزة الأمنية تعمل بأمرة السلطة السياسية لحماية المخالفين للقانون وقمع المحتجين على ذلك.
قام النظام اللبناني منذ البداية على أساس أنه نظام واقتصاد حر، فإذا بهذا الأساس القانوني والدستوري قيد الإستهداف. تقوّض السلطة السياسية أساس النظام والقانون بعد أن تغنت على مدى عقود طويلة بقدسية الملكية الخاصة، وحرية التجارة وحركة المال وحرية التحويلات. أقسم رئيس الجمهورية على حماية الدستور، فإذا انتهاك الدستور يحصل برعايته. انتُدِبَ مجلس النواب للتشريع وأن تكون القوانين حسب الدستور، فإذا به يتخلى عن المهمة ويشارك مع الرئاسة في انتهاك الدستور. وانتُدِبَ مجلس الوزراء ليكون سلطة تنفيذية مهمتها تطبيق القوانين، فإذا بها تتخلى عن هذه المهمة. عندما تنتهك السلطة الدستور والقوانين المنبثقة عنه فهي سلطة فاقدة الشرعية. هي على رأس كل مخالفة للقانون في لبنان.
لم تتوصل السلطة الى نتائج التحقيق في جرائم وطنية كبرى، ومنها تفجير المرفأ والمنطقة المحيطة به، وجريمة الطيونة، وجريمة قرية التليل في عكار، وجرائم أخرى تقل أو تزيد فداحة. فهي مسؤولة عن هذه الجرائم، وإلا فلتقل لنا من هو المسؤول. تعيق التحقيقات بحجة حصانة نيابية أو وزارية، وتمنع المسؤولين من المثول أمام القضاء، لسبب بسيط هو أن هذه السلطة مسؤولة عن هذه الجرائم، ولا تريد أن تتهم أحداً غيرها، ولا تريد في نفس الوقت أن تخضع للقانون.
أما عن جرائم طوابير الذل وإجبار المواطنين على توقّع انقطاع يومي لكل مادة عذائية أو دوائية، أو أي نوع من المواد الضرورية للعيش، فهي تتعلّق سياسيا بسوء الإدارة، بل بسوء إدارة مقصود، والهدف منه تحويل مسار النظام الى غير ما هو مقر قانونياً ودستورياً. فهي جرائم يحاكم عليها من كان مسؤولاً عنها، ولا حصانة حتى لنائب حين يُضبط في ارتكاب جرم مشهود.
ما يجري في لبنان ينزع الحصانة عن كل صاحب مسؤولية في النظام من أعلى الهرم الى أدناه. تكبر الجريمة بمقدار ما تكبر المسؤولية القانونية. “كلن يعني كلن”. شعار رفعته ثورة 17 تشرين عن حق. ما يعانيه اللبنانيون ناتج من سوء استخدام السلطة لدى الجميع. وهذا جرم يحاكم صاحبه بموجب القانون.
ليس الحديث هنا عن فساد يرتكب هنا وهناك، بل عن سلطة هي برمتها مخالفة للدستور والقانون. تعتقد السلطة أن الانتخابات النيابية ضرورية لإعتاقها من مسؤولياتها. فمهما تغيّر من نواب، فإن السلطة ذاتها باقية. وهي مسؤولة عن جرائم كبرى تتمنّع عن تحديد المسؤوليات عنها. المسؤولية تقع على جميع أهل السلطة، وكل منهم بحاجة الى إثبات براءته. وإذا أعيد معظم أهل السلطة جراء الانتخابات، فإن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية. لن تكون السلطة بعد الانتخابات أقل مسؤولية. بل ستكون مسؤوليتها أكبر. لا عفى الله عما مضى. ما جرى ويجري هو تقويض للدستور والقانون، وعلى السلطة بشكلها الحالي والمستقبلي أن تخضع للمساءلة.
يعتقد البعض أن انعقاد جمعية تأسيسية وإعادة تكوين السلطة بهذا الشكل الطائفي أو ذاك يعفي أهل السلطة الحالية من المسؤولية. إذا كان اتفاق الطائف الذي أصبح دستورا قد صيغ لإنهاء حرب أهلية وسلّمت ميليشيات الحرب الأهلية أمرها، فإن السلطة الحالية أقسمت اليمين ونالت الثقة، وصوّت لها الناس، وقدّمت الوعود والخطط، وحنثت بها. ليس هناك تشابه مع الحرب الأهلية. هناك سلطة قائمة. وهي قائمة كي تكون مسؤولة عن إدارة البلد. هي لم تفعل سوى سوء الإدارة عن قصد وسابق تصوّر وتصميم. سوء استخدام السلطة يعاقب عليه القانون. لا تزول الجرائم بالتقادم.
يعرف أهل السلطة ماذا يفعلون. الجريمة ترتكب عن عمد. هي تشتمل على جميع نواحي المجتمع. هل هدفهم أو هدف الطرف الأقوى فيهم إعادة تشكيل النظام؟ ساد منذ مدة شعار “ما بتعمر حتى تخرب”. وهو مثل شائع. على أي شاكلة يراد إعادة تشكيل السلطة؟ وقديما قال المقريزي، “مشاكلة الناس لأيام زمانهم”، في كتاب بهذا العنوان. هناك طريقان للتغيير. واحدة بتراكم الإصلاحات على ما هو قائم، وتراكم التسويات. الطريقة الأخرى تكون بتدمير كل شيء وإحالة الموضع الى تابيولا رازا (أرض محروقة)، ثم البناء فوقها. هذا معناه العودة الى الصفر. تعودت منطقتنا العربية على الطريقة الثانية. وهي العودة الى نقطة الانطلاق، الى نقطة الصفر. بعد أن يصير الواقع مليئاً بالجور والفساد. الثورة بنظر أصحاب هذه الطريقة هي الهدم قبل البناء المزعوم. كان الموقف من ثورة 17 تشرين مؤسساً على هذه الرؤية، ورفض الطريقة الأولى التي تعتمد التغيير بالتراكم. ليس الاختلاف حول ضرورة التغيير، بل على طريقة التغيير. الأولى تعتمد على السياسة، والسياسة تراكم إصلاحات وتجارب، والثانية تعتمد فيما تزعم على جذرية التغيير. بذلك يتحوّل النضال ضد النظام من مقاومة ضد العدو الاسرائيلي، وهو عدو يصعب، بل يستحيل التعايش معه، الى مقاومة ضد النظام اللبناني بجعله عدوا لا يمكن التعايش في كنفه. ولا التسوية، بالأحرى تراكم التسويات، مع من يُعتبروا “الآخر” في المجتمع. هنا تُلغى السياسة ويصير الشقاق بين “نحن” و”هم” بعد جعل قضية الـ”نحن” قضية حق، وقضية “الآخر” قضية باطل. يستحيل في نظرهم التعايش بين الحق والباطل. الحق قضية، والقضية إلهية. وما هو إلهي لا يمكن أن يتعايش مع الشيطان. شيطنة الآخر من الأقربين في المجتمع تجعل منه عدواً. الأصولية الدينية، سواء سنية أو شيعية أو مسيحية، انتقلت في بلاد عربية وإسلامية أخرى من الجهاد ضد “العدو” الخارجي الى الجهاد ضد العدو الأقرب، وكان ذلك بمثابة حرب أهلية، وهذه الى حرب إبادة جماعية ضد الشريك في الوطن. يتذكر الواحد منا كتاب آلان تورين، “هل يمكن العيش سوية”، وهذا السؤال طرح على فرنسا من قبل مفكر يساري سابق، منذ بضعة عقود. هل كان يتنبأ بصعود اليمين الفرنسي المتطرّف وصولا الى نيل مارين لوبين أقل من نصف أصوات الناخبين الفرنسيين، وذلك ضد إيمانويل ماكرون الذي وُصف أنه الممثل الأكثر فجاجة للرأسمال المالي والنيوليبرالية. فكان على الفرنسي الخيار بين السيّىء والأسوأ.
الشرعية ليست في أن نخضع للقانون أو يخضع القانون لنا. هي في أن يصبح القانون جزءاً منا، جزءاً من شخصيتنا؛ وأن يصير القانون هو الناس، بمعنى أن يكون تطبيقه تلقائياً، وأن لا يشذ عنه إلا قلة من الناس فيُعاقبوا. لكن السلطة عندما تشذ عن القانون جماعياً فهي تستحق العقاب. والأخطر هو الانعكاس على المجتمع إذ ينفرط عقده.
المفارقة الكبرى هي أننا بعد الانتخابات النيابية لهذا العام سنكون في وضع لا يقل فداحة وتدميراً اقتصادياً ومالياً عما كنا عليه حينذاك من حيث الخراب المادي وقتل البشر وزهق الأرواح. إلا أنه لن تكون لدينا قيادة كاريزمية كالتي تشخصت في رفيق الحريري. ولا قامات دينية كالتي تمثلت في البطريرك صفير والسيد محمد حسين فضل الله (كان المفتي حسن خالد قد اغتيل قبل سنوات).
سنُعيد معظم المجلس النيابي، كما الأمر في عام 1990 بالاعتماد على مجلس نيابي منتخب عام 1972. مجرمو النهب والاغتيال والتفجير والقتل لن يُعاقبوا، بل سوف يُدمجوا في النظام كما أدمجت الميليشيات في مطلع التسعينيات الماضية. وستبقى ولاءاتهم لأكباش الطوائف. لن يكون باستطاعة النظام أن يتحوّل الى دولة. لن تكون اليد السورية حاضرة لضبط الوضع. وللقمع طبعاً.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق