طلال سلمان

نص لم يُقرأ: الصحافة والشباب

هنا نص كنت أفترض أنني سأقرأه، كمدخل للنقاش مع مجموعة من طلبة “فن الاتصال” في كلية بيروت الجامعية.
لكن حرارة اللقاء ذهبت بالنص المكتوب، وإن استبقى الحوار مضمونة فبات أجدى وأسرع في الوصول.
ولانه يتضمن رأياً صريحاً في العلاقة بين الصحافة والشباب فلقد رأيت أن نشره مفيد لإغناء الحوار إياه.. إذا ما انتظم ، وهذا ما أتمناه.
جئتكم متهيباً وكأنني داخل إلى امتحان صعب،
فالحديث إليكم مهمة شاقة لأكثر من سبب:
*أولاً – إنني لا أحب لنفسي أن أبدو وكأنني مدرس آخر، او أب ثان يمطركم بالنصائح والإرشادات،
كما أنكم، في ما نعرف عنكطم، لا تحبون النصائح، ولا من يتحدثون بلهجة مالكي أسرار المعرفة، وفي هذا نتفق تماماً.
*ثانياً – إنكم لستم، في الرائج عنكم، من القارئين الجيدين. وإنه لما يشق على نفس الكاتب أن يفتقد في جيلكم القراء.
إن ذلك مما يهز اليقين والثقة في النفس، ويطرح للبحث مسألة في غاية الخطورة: هل الغيب فينا أم هو فيكم أم فينا جميعاً؟! أم ننسبه إلى الظروف ونرتاح بالياس من إمكان تغيرها؟
وكيف ومتى يمكن إصلاح الخلل سعياً إلى انتظام العلاقة، فلا نظل نصرخ في صحراء، ولا يظل رفضكم لمن سبقكم من أجيال يلزمكم بالخرس والاستنكاف حتى عن التعارف، ناهيك بالمساجلة طلباً لحوار صحي من أجل مستقبل أفضل؟
*ثالثاً – إنكم تقولون في صمتكم الكثير مما لا نفهم، فإذا سألناكم لم تعرفوا كيف تدافعون عن أفكاركم، لأنكم على جفاء مع الثقافة، وعماد الثقافة القراءة، وهي لست محببة إلى نفوسكم.
ولعلكم تفضلون المريح من وسائل المعرفة السمعية والبصرية، بل لعلكم تفضلون ألا تعرفوا ما تفترضون أنه قد لا يسركم، لأنه يفضح النقص فيكم، أو إنه قد يلزمكم بالمزيد من القراءة والمعرفة.
ففي عصر “الووكمان” والفيديو والتلفيزون وإذاعات الألف. ام. لا تتبقى مساحة كافية من الاهتمام والوقت للقراءة.. خصوصاً وإن تلك الوسائل لا تحتاج إلى مجهود تقريباً أو إلى أية معرفة سابقة، فلا السمع ولا الرؤية بحاجة إلى ثقافة، أما القراءة فتتطلب معرفة باللغة (وآه منها) وأعمالاً للذهن تفكيراً وتحليلاً لاستيفاء المعنى.
لكأننا نعيش وإياكم مفارقة مريرة، عمادها تبادل التهم في ما بيننا:
نقول إنكم لا تقرأون شيئاً ولا تفصحون بإعلان آرائكم وتكتفون بالاستنكاف وما يشبه الحرد الذي سرعان ما يتحول إلى نوع من العدائية الشاملة.
وتردون: بل أنتم لا تتركون لنا فرصة لكي نقول، فأنتم تتحدثون وتثرثرون دائماً، وتضجروننا فنهرب إلى الصمت.
ومن الإنصاف أن نعترف بأنكم مظلومون بسبب ظروف نشأتكم في ظل الحرب (وقد أسماها العرب قديماً “الكريهة”).
لكن روح الإنصاف تقضي بألا تحملوا جيل آبائكم مسؤولية تلك الحرب بالمطلق، فأكثريتهم الساحقة كانوا بين الضحايا مثلكم… بل لعلهم الآن ومعكم ضحايا مرتين: فلا هم ربحوا تلك الحرب التي فرضت على الجميع، ولا كان ممكناً أن يربحها من سيق إلى غمارها على كره منه، أو اضطروا لأنه لم يستطع أن يتفاداها أو أن يجد لنفسه مخرجاً منها.
لقد حوصرنا بالشعارات ذات الوهج، بالعواطف والأماني، كما بالغرائز والأحقاد وذكريات الهزائم القديمة والثارات المنسية، حتى استحال الحياد.
ثم إن الحرب جاءتنا حيث نحن، فلم يتبق خارجها أحد ولا مكان، وغالباً ما فرضت علينا الجغرافيا موقعنا والجبهة والقيادة الملهمة.
ثم إنهم – (إننا) قد خسروا أعز الناس، أنفسهم أولاً ثم أبناءهم، أنتم… فهم قد تشوهوا بآثام الحرب الأهلية / الأممية ووقوعاتها، فخسروا البراءة، واضطروا للتوغل داخل غرائزهم بعد ما أعطوا عقولهم إجازات طويلة، وانقادوا إلى من لا يستحق شرف قيادتهم في الغالب الأعم.. ثم إنهم أضاعوا أحلى سنوات العمر، والكثير منهم أضاع عمره كله، في حرب لم يكونوا مؤمنين بأهدافها دائماً ولم يكونوا مؤمنين بأدواتها وأسلحتها مطلقاً.
أيها الشباب،
ما جئت هنا لكي نتبارى فيثبت كل منا أنه قد خسر في الحرب أكثر من الآخر. فأنتم تفترضون أن جيلنا قد ربح نصف عمره، مثلاً، فعاش قبل الحرب وعرف معنى الحياة وذاق طيباتها… أو أنه على الأقل قد عرف ما نطمئن إلى طبيعة رد فعله.
ثم إنكم لم تتعرفوا إلى الحياة العامة.
لم يكن أي شيء كاملاً: لا الوطن، لا الجيش، لا الأمن، لا البيت، لا المنطقة، لا المدينة، بل وربما ولا الحي أو الشارع.
وحتى الواحد منا كان مشطوراً على اثنين وأحياناً إلى ثلاثة أو أكثر.
ولم تتعرفوا إلى تقاليد العمل السياسي، أو العمل العام إجمالاً، بل لعلكم قد كرهتم التقاليد قبل أن تعرفوها لشدة ما كان أهلكم يتغنون بها ويستذكرونها بتلهف بينما أنتم لا تعرفون عما يتحدثون بالضبط. تسمعونهم مثلاً يتحدثون عن التظاهرات، عن المسيرات الشعبية، عن المهرجانات عن أيام العز في بعلبك والأرز، عن المعارك السياسية الطريفة بين الزعامات القديمة، والمواجهات الحامية في البرلمان، عن الاتحاد الوطني للطلاب والمعركة المفتوحة من أجل قيام الجامعة الوطنية (اللبنانية).
تسمعونهم، مثلاً، يتحدثون عن الكتب والمقالات التي أثارت الكثير من الحماية، عن القصائد التي قيلت عندما آلت إمارة الشعر إلى الأخطل الصغير.
تسمعونهم، مثلاً، يتحدثون عن المعارضة التي قدر لها في مناسبات معينة أن تسقط حكومات، بل وعهوداً بالرئاسات فيها والأكثريات النيابية المفبركة على عجل.
ولأنكم لا تعرفون، أو بالأحرى لأنكم لم تعيشوا تلك الوقائع ولم تشهدوا في ما عشتم أثراً لها، فإن ذلك لا يعنيكم في شيء.
بل لعلكم أثر الاستماع إلى تلك الذكريات تستشعرون شيئاً من القهر أو الغضب، لأنكم حرمتم من تلك النعمة، أو أن أهلكم قد استأثروا بها من دونكم.
وفي الغالب الأعم فإن رد فعلكم يتخذ منحى مغايراً، إذ تنطوون أكثر على أنفسكم، ويتعثر الحوار مع الأهل فيصير لكل طرف مونولوغه الخاص: كأنهم بعض الماضي الذي لم تعرفوا، وكأنكم بعض المستقبل الذي لن يعرفوه.
لسنا صحافتكم، إننا صحافة الزمن القديم.
نعرف هذا ونعترف به، فنحن لم نصل بعد إلى معرفة ما تريدونه تماماً ولعلنا – بالمقابل – لا نقبل أن نكون ما نفترض أنكم تريدونه.
فالصورة عنكم إنكم تكرهون السياسة والسياسيين.
وإنكم لا تريدون أن تشغلوا أنفسكم بهؤلاء الذين يتحملون مسؤولية الحرب، بكل جرائمها وبشاعاتها، والذين جاءوا الآن فتصدروا القيادة مدعين أنهم هم المؤهلون لقيادة السلم الأهلي وإعادة بناء المجتمع والدولة.
وإنكم لا تريدون أو لا تحبون أن تعيشوا في الماضي، ولذلك فأنتم تنفرون من كل ما قيد يعيدكم إليه أو يذكركم به.
وإنكم إجمالاً لا تفضلون كل ما هو خفيف وسهل ولا يتطلب جهداً أو تفكيراً، لذا تنصرفون إلى قراءات من نوع آخر: فيها ما يسلي وليس فيها ما يشغل البال.
فالصورة خير من المقال،
والكلمات المتقاطعة خير من التحليل السياسي، خصوصاً لمن لا يحب السياسة.
والآخبار كريهة يفضل اجتنابها، ثم أن الآخرين يصطنعونها لنا، فلماذا الاهتمام بها، طالما أن قدرنا معلق بمزاج الآخرين ومصالحهم.
كل شيء مفروض: الاحتلال والقيادات، صورة الغد والطريق إليه، والمناهج المدرسية وقواعد السلوك اليومي.
لكن هذا وجه واحد من الصورة،
الوجه الآخر إننا، وبمنتهى الصراحة، صحافة متخلفة،
لقد فرضت علينا الحرب إضافة إلى التشوه أن نتخلف، وأن نتراجع عما كنا عليه قبلها.
لم نستطع أن نلحق بالتطور وركب التقدم،
ولم نتمكن بعد من تطهير أنفسنا من آثام الحرب وتشوهاتها.
لم نتحرر بعد من أسار مفاهيمها المفروضة ومن تراثها الوحشي.
إننا نحاول ونجتهد. لكننا نحتاج إلى مزيد من الوقت لكي نستعيد لياقتنا المهنية وقدرتنا على التعرف إلى ما استحدث في غيابنا، ثم إلى استدراك ما فاتنا وتعويضه.
لقد فقدنا، نحن أيضاً، عادة النقاش والحوار الديموقراطي المفتوح. ولعلنا نحاول الآن، ولعل المحاولة تتعبنا، فهي تحتاج إلى مناخ صحي، وإلى حيوية يفتقدها مجتمعنا، وإلى قدر من السلامة والنقاء والانفتاح والاطمئنان إلى أن التعبير عن النفس بكل ما يختلج فيها من مشاعر وآراء واجتهادات تحتمل الخطأ كما الصواب، لن يكون الجواب عليه بالرصاص أو بالقطيعة، وهي أمر وأقصى.
أيها الشباب،
لسنا صحافتكم، ولكننا نتهمكم بأنكم أنتم أيضاً لا تعرفون كيف تريدون صحافتكم، لأنكم لم تحددوا بعد ما تريدون من حياتكم.
إنكم لا تناقشون.. ترفضون فقط.
والرفض علامة صحة إذا كان مقدمة لإعلان ما نريد، ولكنه ليس بذاته الحل.
عليكم أن تقولوا، وعلينا أن نسمع.
ولقد تكون البداية خاطئة، ولكن النقاش الديموقراطي يصححها، كذلك فإن التجربة هي الطريق الإجباري إلى استكشاف الآفاق الجديدة.
فكونوا رواداً، ولا تخافوا من كونكم لا تعرفون ما يكفي.
لا أحد يعرف كل شيء عن كل شيء.
لا أحد أبداً من ذروة الكمال.
كلنا تعلمنا من أخطائنا.. لكننا حاولنا من بعد تجاوزها.
ولعلنا نلتقي أخيراً، فيقبل واحدنا الآخر. وتبدأ تجربة فذة وجديدة نحتاجها جميعاً من أجل اصطناع حياة كريمة تليق بكرامتنا كبشر يعيشون هذه السنوات المذهلة بوتيرة التقدم، أواخر القرن العشرين.
فهاتوا أيديكم لنبني معاً الغد الأفضل.

Exit mobile version