طلال سلمان

نص توجيهي لتهنئة بوش

لم يكن ممكناً، ولو بالتخيّل، أن يتلقى رفيق الحريري وهو على رأس أي من الحكومات الخمس التي تولى قيادتها بين أواخر 1992 وأواخر 2004، رسالة تهنئة بمثل »النص التوجيهي« التي بعث بها الرئيس الأميركي جورج بوش إلى رئيس الحكومة القائم بالأمر بقوة إرث رفيق الحريري شهيداً فؤاد السنيورة، لمناسبة عيد الاستقلال.
.. ولو أن مثل هذه الرسالة التي بالغت، بشكل نافر، في الإشادة بالحكومة »التي صُنعت فعلاً في لبنان« وتقود »التحوّل الملحوظ بما يتلائم وحاجات الشعب اللبناني وتطلعاته«، وأكدت دعم الإدارة الأميركية المستمر »لتحقيق كامل الإصلاحات السياسية والاجتماعية والمؤسساتية« ودعمها أيضاً »الحرية والديموقراطية وتنفيذ السياسات المبشّرة بمستقبل زاهر لشباب لبنان الواعد والموهوب..«.
لو أن مثل هذه الرسالة وصلت، بالتخيّل، إلى رفيق الحريري رئيساً لكان سهر طويلاً على إعداد رد واضح عليها يضع فيه الحد الفاصل بين المجاملة التقليدية في مناسبة وطنية، وبين »النص التوجيهي« الذي صيغت به الرسالة بما يجعلها على حافة التدخل في الشؤون الداخلية، ومن ثم على حافة »إملاء« سياسة أخرى غير المعتمدة رسمياً، بقصد الإساءة إلى السمعة الوطنية للرئيس وسياسته.
لكن جريمة اغتيال رفيق الحريري جعلت الدنيا غير الدنيا، إذ أسقطت ما كان في حكم الثوابت والبديهيات، وبرّرت إعادة النظر في الكثير مما كان له طابع التقليد الذي لا يمسّ في الحياة السياسية في لبنان وعلاقاته العربية ومن ثم الدولية.
الدنيا غير الدنيا، ليس لأن فؤاد السنيورة أقل وطنية من رفيق الحريري أو أقل تشككاً في الأهداف الخبيثة والمعلنة للإدارة الأميركية في المنطقة عموماً، وبين عناوينها احتلال العراق وتمزيقه بحرب أهلية تنذر نيرانها بالامتداد إلى »الجوار« بكامله، فضلاً عن التكامل في الأهداف والسياسة مع العدو الإسرائيلي، بل لأن جريمة الاغتيال بدّلت وحوّرت وغيّرت فقدّمت أو أخّرت في ما كان يعتبر من ثوابت الحكم عموماً والحكومات على وجه الخصوص.
ولقد ساعد على تسريع هذه التحولات وتجاوزها (أحياناً) الخطوط الحمر أن دمشق الرسمية قد قصّرت في تحمّل مسؤوليتها في كشف الحقيقة حول هذه الجريمة البشعة، وفي احترام حق اللبنانيين (والسوريين) في أن يعرفوا من دبّر وخطط ونفذ هذا الاغتيال الذي كاد يتسبّب بخطورته أولاً ثم باستغلاله الدولي، الأميركي أساساً في خلق جو من الريبة والشكوك يقارب حدود العداء بين لبنان وسوريا.
وإذا كان من حق اللبنانيين (والسوريين) أن يسائلوا النظام في سوريا على الأخطاء بل الخطايا التي ارتكبتها إدارته للشأن اللبناني، أو ارتكبتها السلطة في بيروت تحت غطائه، فليس معنى هذا أن تصبح الإدارة الأميركية مصدر الشهادة بالوطنية للبنانيين ولحكوماتهم، وأن تقرّر واشنطن أن سنة الحزن وافتقاد الشهيد والاضطراب النفسي الشديد الذي لامس حدود فقدان التوازن، أحياناً، والضياع في حالات مشهودة، هي »سنة جديرة بالاحتفال باستقلال لبنان«.
لقد كانت أبرز مآخذ الوطنيين في لبنان على الإدارة السورية للشأن اللبناني أنها قد أضعفت موقعهم وحقهم الشرعي في قيادة حكم بلادهم (بالتحالف معها..)، وأنها استخفت بروح المقاومة لديهم للتدخل الأجنبي، وأنها فرضت عليهم معادلة طالما رفضوها عبر تاريخهم ومؤداها: عليكم المفاضلة بين هيمنتين: واحدة باسم العروبة (والعروبة ضحيتها فعلاً، لأن اللبنانيين بغالبيتهم الساحقة وطنيون وعروبيون)، يمارسها الجار الأقرب تحت شعار »وحدة المسار والمصير«.. والثانية هيمنة باسم الديموقراطية والالتحاق بركب التقدم والازدهار الاقتصادي تمارسها »الدول« أي الإدارة الأميركية، ولو مموهة ومشفوعة بغطاء غربي عام من السهل تمريره باسم »الشرعية الدولية« عبر مجلس الأمن الذي كاد يتفرغ لشؤون العرب (والمسلمين) مستغلاً أخطاء أنظمتهم في الداخل والخارج (العراق، فلسطين، السودان، سوريا من مدخل لبنان، ونصيبه حتى هذه اللحظة أربعة قرارات 1559، 1595، 1614، 1636 والحبل على الجرار..)!
مع ذلك، فليس إضعاف سوريا ومحاصرتها وفرض العقوبات على دولتها وشعبها بين مطالب اللبنانيين، ولا هم يسعون إلى ذلك أو يقبلون بأن يكونوا أداة لتحقيق أصحاب مشاريع الهيمنة على المستقبل العربي، مهما تعاظمت انتقاداتهم لممارسات نظامها خلال توليه »إدارة الشأن اللبناني«.
.. ولو كان رفيق الحريري حياً، وفي موقعه على رأس الحكومة، لكان »رد التحية بأحسن منها«… أما وهو شهيد فإن فؤاد السنيورة الذي كان خدينه ومستشاره ووزيره طيلة حكمه سوف يرد بما يحمي موقعه هذا من الشهيد… خصوصاً وهو مؤتمن الآن على تراثه الوطني القومي، بما يؤكد فعلاً أن الاستقلال ليس انفصالاً عن العرب (وسوريا أقرب عناوينهم إليه) وليس التحاقاً بالغرب وديموقراطية الفوضى الخلاقة.
وفؤاد السنيورة الذي يحب الشعر ويحفظه يتذكّر القاعدة السياسية المنظومة التي تقول: وإن الذي بيني وبين بني أمي وبين بني أبي لمختلف جداً«… إلخ، وهي حكمة خالدة كما يعلم وتعلمون!

Exit mobile version