طلال سلمان

نصر يهزم فتنة

ما أبعد الشهيد عن دمه! ما أبعد البيت عن أهله! ما أبعد الجدل البيزنطي بتفرعاته الرئاسية والحكومية والنيابية، القضائية والأمنية، عن أصل القضية! وما أبعد اليوم عن البارحة، وخصوصاً عن الغد الذي كان يتبدى بعيداً عن القدرة التي بالأمس فقط ألغت ما كان في حكم المستحيل، وأسقطت الأساطير جميعاً: أسطورة القوة التي لا تقهر، وأسطورة الضعف كمصدر للقوة ، وأسطورة العجز الذي لا يمكن تجاوزه لأنه كامن في الجينات نتوارثه جيلاً بعد جيل ولا أمل في الشفاء!
أمس، وحين أطل الأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصر الله ليستعيد، معنا، وقائع الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي نعيش الآن في ظلال ذكراها الأولى، تبدى وكأنه يحدثنا عن حدث جلل، ولكنه وقع في زمن سحيق: بعضنا لا يريد أن يتذكّره، وبعضنا الآخر لا يستطيع أن ينساه… والكل يعيش في إسار نتائجه، سواء منها المحلية، أو الأخطر وهي العربية، أو الأفظع وهي الدولية (وهو تعبير مهذب للهيمنة الأميركية).
غني عن البيان، طبعاً، أن هذه النتائج (المفروضة بقوة التدخل الدولي الذي كان في صلب قرار الحرب الإسرائيلية وفي أساس امتدادها أو تمديدها بالأمر) هي غير تلك التي كان مقدراً لها أن تظهر في السياسة عاكسة حقيقة ما جرى في الميدان، فتقرّر شكل الحاضر والمستقبل.
لكن القرار الدولي (ومن ضمنه النظام العربي) كان وما زال هو هو منذ العام 1947 وربما منذ وعد بلفور في العام 1917 : التمكين لإسرائيل على حساب كل العرب، وليس فلسطين وحدها… مع ملاحظة أن الحساب بات يعني أن يتكفل العرب بتعويض إسرائيل خسائرها السياسية أساساً، والمادية بطبيعة الحال. وما يتعذر دفعه مباشرة فالغرب جاهز للتحويل نقداً أو سلاحاً فضلاً عن التغطية اللازمة بالقرار الدولي الذي لا يحتاج إلى جهد لأن أختام مجلس الأمن باتت جميعاً في عهدة الإدارة الأميركية.
ولقد تجمّع الناس ليستمعوا إلى السيد حسن وهو يروي، بهدوئه المستفز، حكاية ذلك النصر الذي كان أبعد من التخيّل والتقدير.
اعتصرهم الألم وهم يستذكرون النصر الذي أسهم الجميع في صنعه، بدمائهم وجراحهم وتضامنهم واحتضان بعضهم بعضاً، وتوحدهم ليس في مواجهة الخطر فحسب، بل في صمودهم العظيم الذي حمى ظهر المقاومة والمقاومين، وقهر القرار الأميركي المعلن بإطالة أمد الحرب الإسرائيلية لعل الجيش الذي لا يقهر يستعيد هيبته التي تمرغت بالوحل، أو لعل هذا القرار معززاً بالضغط العربي يشعل نار الفتنة في الداخل، بما يقلب النتائج رأساً على عقب ويهدر دماء الشهداء، نساءً وأطفالاً وشيوخاً ورجالاً وزيتوناً وبيوتاً بقناطر وأصص حبق وحبالاً مجدولة للتبغ وحقولاً للقمح الذي يرد عرق الجباه رزقاً حلالاً..
لكن الابتسامة التي كانت تفيض من وجه السيد حسن كانت تنقل إلى الناس اطمئناناً إلى الحاضر، برغم صعوباته الشديدة التعقيد، وإلى المستقبل برغم الضغوط الهائلة التي تبذل لاغتياله، من العراق إلى فلسطين، وفي العراق وفي فلسطين، ومن لبنان الذي صار كثيراً إلى لبنان الذي ما زال برغم كل شيء واحداً، ويتبدى جلياً أنه قد انتصر على الفتنة بدماء شهدائه وتضحيات أهله في جهاته الأربع…
ولعل هذه الحقيقة هي مصدر الهدوء الفائض عن الحد عند السيد حسن نصر الله، وهو الاطمئنان الذي نثره أمس على الجمهور الذي تعوّد أن يسمع منه ما يعزز إيمانه بأرضه وبقدرته المؤهلة لصنع المعجزات، كالتي أنجزها في مثل هذه الأيام من العام الماضي، والتي ستكون في صورة الغد، مهما تعاظمت المحاولات لطمسها.
ومَن يُرِدْ أن يقرأ النصر بوضوح فلينظر إلى إسرائيل، فهي تكاد تكون أرحم بمن صنعوه من أهلهم الأقربين.

Exit mobile version