طلال سلمان

نصر ممكن في »الزمن يهودي«

أكثر ما يزعج الإسرائيليين في »مسألة لبنان« أن هذا البلد الصغير الذي كانوا يفترضون أنه بتركيبته الفريدة سيكون »الحليف الموضوعي« لدولة الأقلية المتحكمة بالأكثريات، أو أنه، في أسوأ الحالات، سيكون مجرد تابع لغيره من »الكبار« يمسك نفسه عن التوقيع قبلهم حتى لا يتحمل الوزر باعتباره الأضعف، وها هو الآن يفسد عليهم مباهج ما يسميه الكاتب عكيفا الدار في صحيفة »هآرتس«، الصادرة أمس، »الزمن اليهودي«.
ولا تعوز الأمثلة المؤكدة لسيادة »الزمن اليهودي« هذا الكاتب الإسرائيلي الذي ينصح رئيس حكومته إيهود باراك (الذي سيزور واشنطن الأسبوع المقبل) بأن يحرص على كل كلمة وكل ابتسامة، فهي فترة انتخابات و»الثناء السخي على آل غور، حبيب اليهود قد يغيظ الجمهوريين والعكس هو الصحيح مع الديموقراطيين (…) وبوش الذي يتقدم في الاستطلاعات لا يتنازل لآل غور عن أي صوت يهودي (…) وهيلاري كلينتون لا تتنازل هي الأخرى عن أصوات يهود نيويورك«!
في »الزمن اليهودي« وحيث تحكم إسرائيل »حاكم الكون« وتتحكّم بالرئاسة والإدارة والمال والإعلام، يفاجئها هذا اللبنان فيكشف أسطورة قوتها المطلقة، ويفضح عجزها عن المواجهة برغم تفوقها ويضطرها إلى انسحاب مرتجل هو بكل المعايير هزيمة عسكرية تحت ضغط »المقاومين الثمانمئة«، لا يخفف من وقعها النجاح في صياغة مناورة سياسية ذكية لاستخدام سلاح القرار 425 ضد أصحابه الشرعيين من اللبنانيين الذين اتقنوا فنون القتال كما عرفوا تاريخيا كيف »يسوِّقون« بلدهم الجميل الصغير والذي يحظى بعطف عربي خاص وبنوع من الرعاية الدولية لتجربته الناجحة، مبدئيا.
وفي »الزمن اليهودي« تستطيع إسرائيل الجهر »بأنهم في واشنطن مثل تل أبيب لا يحبون في وزارة الخارجية تدخل الرئيس في القضايا الخارجية«، ووزارة الخارجية، في نظر »هآرتس«، تتلخص في شخص دنيس روس »الذي ظل ثابتا برغم كل التوقعات منتقلا من بيكر الى كريستوفر فمادلين أولبرايت، ومجتازا إسحق شامير وشيمون بيريز واسحق رابين وبنيامين نتنياهو وصولا الى ايهود باراك«.
ودنيس روس الذي يكاد يلخص الادارة الاميركية في »الزمن اليهودي«، هو سفاح الموضوع الفلسطيني، وهو ناسف قمة جنيف بين الرئيس السوري حافظ الاسد والرئيس الاميركي بيل كلينتون، وهو احد المشاركين في التخطيط لمناورة باراك اللبنانية بالانسحاب من جنوبه المحتل باتفاق او بغير اتفاق، كجزء من خطة متكاملة لحصار الصمود السوري وإخراج المقاومة في لبنان من دائرة الفعل، وإفقاد التضامن العربي مضمونه بجعله غير ذي موضوع، اما بسبب من التسليم او بسبب من استحالة الانتصار وعلى امبراطور الكون الاميركي.
مع الوعي الكامل بدقة المرحلة التي تواجه اللبنانيين في ظل المناورة الاسرائيلية المحبوكة جيداً تحت عنوان الانسحاب من لبنان تنفيذاً للقرار 425، فان الانتصار في هذه المعركة من شأنه ان يفضح طبيعة هذا »الزمن اليهودي«، وان يكشف هشاشته اذا توفرت الارادة، واذا ما صمم شعب (ولو صغيرا) على المقاومة مع وعي كامل بظروف المعركة ومسرحها والاسلحة الفعالة فيها.
ولبنان قاب قوسين او ادنى من تحقيق نصر مزدوج وباهر: اجبار جيش الاحتلال الاسرائيلي على الانسحاب تحت ضغط المقاومة، وإلزام اسرائيل، ولاول مرة في تاريخها بتنفيذ قرار صادر عن مجلس الامن الدولي.. ان الحرب بخاتمتها.
ولا بد للبنان من ان يعيد ترتيب أوراقه، وتعزيز حقه القانوني بالمنطق والوثائق اللازمة، والخروج الى مراكز القرار في العالم ليحاول اقناعها بحقه، فإن عز عليه ذلك فلا بأس من احراجها، وتجييش العرب في اقطارهم كافة لخوض هذه المعركة التي تعنيهم جميعاً، في حاضرهم وفي مستقبلهم، فالخسارة سترتد عليهم كلهم كما ان لهم في حلاوة النصر نصيباً طيباً.
انه »الزمن اليهودي«،
لكنه مفروض بالقوة، وليس بالديموقراطية والانتخابات الحرة،
ومهما كان احساسنا بفارق القوة بيننا وبين هذا العدو الجبار فلا يجوز ان يعطلنا هذا او يمنعنا من خوض معركتنا التي بانت بشائر النصر فيها،
هل يكون الوقت او الجهد او التنقيب عن خريطة او اعداد مذكرة بحقنا او الخروج الى العالم لشرح عدالة قضيتنا اصعب علينا من بذل الدم سخياً حتى احراق الاحتلال؟
من نجح بدمه لا يجوز ان يضيَّع نصره بتقصيره او بانطوائه على نفسه يأساً، أو بالاستسلام سلفاً تحت شعار »مافيش فايدة«.
انه »الزمن اليهودي«،
لكن القتال الناجح، بالدبلوماسية وبالسياسة وبالوعي، كما بالدم في ميدان المواجهة العسكرية، يستطيع ان يحد من هذه الهيمنة،
وقبل ان نطالب العالم بأن يسمعنا علينا ان نعرف كيف نصوغ منطقاً متماسكاً نقبله نحن ونلتف من حوله، ونكمل به المهمة النبيلة التي بذل المجاهدون في المقاومة دماءهم رخيصة من اجل انتصارها.

Exit mobile version