طلال سلمان

نصر لمقاومة لم يتملكها غرور

لندن …
الثلج في الخارج، وفي الكلمات المهذبة جداً، على قسوتها، والتي سمعتها بصيغ مختلفة وبرنة إشفاق، على مدى الأيام الثلاثة من بعض الدبلوماسيين البريطانيين، وسمعتها ملعلعة من كثير من أهلك العرب المستغربين، هنا، والتي تكاد تصبح الصوت الغالب في أي مناقشة سياسية، هناك في »البلاد«، والتي تردد بلا تعب أن لا أمل لا في اليوم ولا في الغد ولا حتى في بعد غد، وأن الهزيمة قدرك وقدر أبنائك من بعدك، وأن الاستسلام هو الممر الإجباري إلى السلامة.. والسلامة غنيمة!
ونحن، مجموعة صغيرة من غرباء الديار، نتحلق من حول فضائية »المنار« الممتازة، نتابع الوقائع المُنشية للإنجاز الجديد والباهر الذي حققته »المنظمة الإرهابية الأجنبية« المسماة »حزب الله«، متمثلاً في عودة الأسرى وقد حررتهم من سجون العدو، بذكائها السياسي الرفيع المستوى، وبكفاءتها التي تدلل على »هجانتها« التي أثبتها السفير الأميركي في بيروت بالدليل الحسي القاطع!
جلسنا نتابعهم وهم يتطلعون بتلهف من النوافذ الصغيرة للطائرة الألمانية وهي تقترب كأنما على شغاف القلوب من أرض المطار. أخذ الحلم يتبلور شيئاً فشيئاً ليستحيل حقيقة. صار الظلام أرضاً. صارت الأرض أهلاً. صار الأهل وطناً.. صار الوطن أمة.
قدم الجيش التحية للذين تقدموه فافتدوا وحدته والدولة.
جاء أهل الأسرى في موكب الفخار، يتهادون بنشوة النصر، دخلوا لأول مرة ذلك الصالون الذي تشرّف الآن بهم وسيزداد شرفاً حين يطأه العائدون مرفوعي الرؤوس والقبضات، المزدحمة صدورهم بروحهم المعنوية.مشى العائدون على المباركة الأرض فتعملقوا، ثم أخذتهم العاطفة فتواضعوا ومشوا نحو الرؤساء وسائر المسؤولين يمنحونهم قبساً من »قداسة« أيديهم التي طالما رسفت في القيود. كانوا في شوق إلى الوجوه الحبيبة، إلى الأهل، إلى الأرض، إلى الهوية.
إنه لقاء على المعنى وليس مجرد مهرجان للفولكلور السياسي الرديء. وهو تلاق على من يستحق أن تخرج له الدولة لتؤكد شرعيتها، تصاغرت الألقاب والهامات التي تكبِّرها الألقاب. اضطر جميع المتطاولين الى الانحناء لكي يقبّلوا الجبين المرفوع لهؤلاء الذين اختطفهم العدو فتية وشباباً وعادوا من أسره كهولاً يعرفهم أبناؤهم ويعرفونهم عبر الصور.
* * *
أهم من اللقاء خطاب »سيد« التحرير.
من حق صاحب الإنجاز أن يقول، ولا خوف عليه من الخطأ، والأهم أن لا خوف عليه من أن تأخذه العزة بالنفس الى الغرور. وقال السيد حسن نصر الله ما يتوجب قوله.
ليس النصر في مستوى الاستحالة. صحيح أن العدو جبار القوة، سياسياً، على المستوى الدولي (والعربي؟!)، وعسكرياً في مواجهة هذا الانسحاق العربي المريع. لكن المقاومة ممكنة دائماً، وقادرة دائماً على إرباك العدو وإجباره على التراجع.
النصر فصيح، والهزيمة بكماء، يسربلها الشعور بالخزي ودمع الانسحاق تحت وطأة العجز وعاره المقيم.
وهكذا تجلى حسن نصر الله كقائد سياسي في مستوى النصر: لم تأخذه الحماسة إلى الشطط، إلى الغلو، إلى الغرور والانبهار ببريق الإنجاز. ظل على الأرض، لأنه يعرف أن الأرض هي ولاّدة المجد وهي حاضنته.. وأن ارتباطه بالأرض، حماية وتحريراً، هو مصدر قوته. والأرض بناسها، إن هم لم يحفظوها تناهبها الأعداء والخصوم.
وأهمية هذا النصر أنه يجيء في هذه اللحظة السياسية المزدحمة بالانهيارات والتزاحم على الاستسلام بذريعة أن زمن الشعوب قد ولّى، وأن عودة الاحتلال (الأرض أو الإرادة أو كلتيهما) قدر لا يرد، وأن المقاومة قد تتحول إلى فتنة، وقد تأخذ إلى التقسيم والتفتيت والحرب الأهلية.
أهمية هذا النصر في أنه يتجاوز دلالاته الوطنية العظيمة ليشع في الأفق العربي المسدود باليأس من الذات ومن شفاعة الصديق الأميركي ومن »رحمة« العدو الإسرائيلي.
ولمثل هذا النصر كان الخطاب الجامع المانع، بالمعنى الوطني وبالمعنى القومي، بحيث لم يغفل »سيد المقاومة« قضية ولم يأخذه السهو بعيداً عن تحديد أهداف الغد وما بعد الغد.
ولعل اللغة التي خاطب بها السيد حسن نصر الله العقيد معمر القذافي هي أرقى ما يمكن أن يصدر عن مثله لمثله، في قضية مفجعة كاختفاء »إمام المقاومة« السيد موسى الصدر مع رفيقيه الشيخ محمد يعقوب والزميل عباس بدر الدين، أثناء زيارتهم الى ليبيا عشية »عيد الفاتح« في أواخر آب 1978.
لقد أوجز فأوفى، وكان رقيقاً في تحذيره، فبلّغ وأشهد الناس عليه، وهو يطالب العقيد القذافي بكشف مصير »ضيوفه«، خصوصاً أنه يصفّي ملفاته العالقة مع الأجنبي الذي كان، حتى الأمس، العدو الأول لليبيا ولقائد الفاتح شخصياً، وقد قصفته طائراته الحربية وقتلت ابنته بالتبني قبل ستة عشر عاماً.
كان حسن نصر الله، أمس، وأكثر مما كان في أي يوم، قائداً عربياً من نوع فريد: قوياً بروح المقاومة، مفعماً ببهجة الإنجاز، واثقاً من قدرته على مواجهة أعتى الأعداء، لكنه لا يطلق الكلام جزافاً، ولا يعتز بنفسه فيرى أنه البديل من الناس، من بسطاء الناس، واهبي أرواحهم للقضية المقدسة.
وقد يكون صحيحاً القول إن »الأفق العربي« الذي تكاد تسده الهزيمة لا يتسع لقامة حسن نصر الله، وانه سيغدو الآن هدف السهام جميعاً، ومن الداخل قبل الخارج، لكن وهج الدم المقدس يحمي من الغرور، والإيمان يحمي من الزهو.
ولسنا نخاف على قائد المقاومة ولا على »حزب الله« من الغرور، فلقد حقق عبر مسيرته الطويلة انتصارات أعظم من انتصار الأمس، وظل مع ذلك »على الأرض«، وفي الأرض، ومع أهل الأرض، لم يبتعد عنهم استكباراً ولم يبتعدوا عنه ثقة واعتزازاً بحكمته قبل شجاعته.
وعسى يجد هذا النصر من يستثمره ومن يكمل به النهج إلى تحرير الأرض والإنسان عربياً.
ومبروك للوطن استعادة شهدائه الأحياء.

Exit mobile version