طلال سلمان

نصر تموز في باريس وتصحيح علاقات لبنانية سورية

لكأن لبنان هو من اختار »الموعد الذهبي« في باريس في الذكرى الثالثة للحرب الإسرائيلية عليه، والتي أفشلتها مقاومته الباسلة معززة بالصمود العظيم لشعبه، ومن ضمنه جيشه المحروم من القدرات الضرورية لمواجهة الاعتداء الإسرائيلي المفتوح على استقلاله واحتمالات تقدمه وازدهاره وحقه في حياة هانئة، بل وطبيعية.ولقد كانت نبرة الزهو واضحة في أحاديث الرئيس ميشال سليمان وهو يستذكر مصادفة انعقاد قمة »الاتحاد من أجل المتوسط« مع الذكرى الثالثة لانتصار لبنان، قبل عامين، ولو بكلفة عالية، ولا سيما أنه كان ـ من موقعه على رأس الجيش حينها ـ طرفاً فيها، وقد دفع عشرات العسكريين حياتهم ثمناً للصمود العظيم الذي أفشل تلك الحرب بقرارها الأميركي المعلن.تبدى وكأن لبنان هو »ضيف الشرف« في هذه القمة المرتجلة، وقد تجلى ذلك عبر الحفاوة الفرنسية الاستثنائية، كما عبر اللقاءات الحارة مع الرئيس السوري بشار الأسد، أو عبر الرعاية العربية المميزة التي تجلت في إقبال القادة العرب عليه محتفين بعودته إلى مقعده الفارغ وإلى دوره المفتقد منذ سنين.هي مصادفة، لكنها جاءت لتؤكد بعض الدلالات السياسية المهمة: فلأول مرة يتهيّب »الإسرائيلي« النظر في اتجاه مقعد لبنان في مؤتمر دولي، ويتجنب »التحرش« برئيسه تحت ذريعة »الرغبة في السلام«… حتى لقد تبدت العواطف الملتهبة لساركوزي المضيف تجاه أولمرت مبالغاً فيها، برغم النجدة التي جاءته من الرئيس الفلسطيني المهيض الجناح، محمود عباس، كأنما لتعوّض عليه بعض ما خسره من »هيبة« المنتصر الدائم (وباسم الغرب كله) على العرب مجتمعين…بالمقابل كان بوسع الرئيس اللبناني المنتخب بعد النصر أن يظهر اعتــزازه بصــمود المقــاومة، ومن خلفها الشعب جميـعاً، في مواجهة الحرب التي استخدمت فيها إسرائيل أقوـى ما في ترسانتها الحربية من ســلاح، ثم أعــانتها الإدارة الأميركية بالقــنابل العنقـودية لتستمر آلة القـتل في حصــد المزيد من المواطنين، نسـاءً وأطفـالاً وشبـابـاً وشيوخـاً.وكان بديهياً أن يحظى لبنان بتقدير الأشقاء العرب عموماً، وبالذات منهم سوريا، شريكته بالاضطرار كما بالرغبة، في مواجهة الحرب الإسرائيلية على العرب والتي لم تتوقف يوماً واحداً.وبالتأكيد فإن مواقف الود والاحترام التي صدرت عن الرئيس بشار الأسد تجاه لبنان ورئيسه، ومن بينها التوكيد على إقامة العلاقات الدبلوماسية في أقرب وقت، كانت تعكس في جانب منها التقدير العالي للدور المجيد الذي لعبته المقاومة في مواجهة العدو الإسرائيلي وإفشال مخططاته التي تستهدف سوريا كما تستهدف لبنان، فضلاً عن الشعب الفلسطيني.لقد أصاب الرئيس سليمان حين أكد أن »لبنان السيد على أرضه هو أفضل صديق لسوريا«، وحين تحدث عن حتمية استكمال التحرير بالقوة، مستذكراً مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، إذا لم تنفع الدبلوماسية والقرارات الدولية.كان الارتياح يظلل اللقاءات بين رئيسي البلدين المتداخلة مصالحهما، الوثيقة صلات القربى والنسب بينهما. فلبنان المقاوم لا يعاني من عقدة نقص، ولبنان المؤكدة عروبته لا يحتاج إلى أدلة تؤكد حرصه على سوريا، بل أنه يستطيع أن يطالب سوريا ـ ومن موقع السند وشريك المصير ـ بما يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى تقديم كل ما يعزز وحدة شعبه وتماسك الحكم فيه.من هنا شهدنا فصولاً من الدبلوماسية المباشرة وعلى الهواء، إذ تم الحديث صراحة حول كل ما كان يعتبر من المحرّمات أو من المحظورات، فتحولت فرنسا ـ آلياً ـ إلى شاهد بينما كان البعض يريدها »راعياً« أو شريكاً في موقع الطرف الثالث في العلاقة بين البلدين الشقيقين.أما قطر التي كانت متواضعة في ادعاءاتها ويكفيها الإقرار بدور لها في إنجاز ما تفرض الضرورة إنجازه، فلم تكن تطلب أكثر من الظهور في الصورة بما يتناسب مع حجم قدرتها على المساعدة… عربياً وفرنسياً.لقد نجح لبنان في العودة إلى موقعه، بغير أن يلتحق بطابور مستجدي »الحماية الأميركية«.وهذه التظاهرة الدولية التي استقبلت الرئيس ميشال سليمان إضافة ممتازة إلى رصيد لبنان الذي، ولأول مرة، لا يذهب مستجدياً الدعم، أو مطالباً بنصرته على الشقيق السوري، أو عارضاً »الوجود الفلسطيني« في المزاد الدولي…وبغض النظر عن حجم الفوائد التي قد يجنيها لبنان، بل العرب جميعاً من هذا »الاتحاد« الذي استولد على عجل، والذي يفتقد مضموناً يؤكد جدواه بالنسبة للطرف الأضعف فيه، وهو بالدرجة الأولى الدول العربية التي قد تطلب منه ما يتجاوز قدراته، فإن انعقاده شكل فرصة طيبة لمباشرة تصحيح العلاقات بين بيروت ودمشق، وهذه مهمة لا تحتمل التأجيل.لقد اتفق الرئيسان سليمان والأسد على خطوات عملية، وحددا مواعيد علنية، لمراجعة التجربة الغنية بالمرارات بين »الشقيقين التوأمين«، وبقصد إرسائها على قواعد ثابتة، تخدم مصالحهما المشتركة.وإنها لبداية ممتازة »للعهد الجديد«، إذا ما أمكن حماية هذه الخطوات من آفة المزايدات والمناقصات ومن الاشتباكات المفتوحة التي يمكن أن تشكل استثماراً مجزياً لبعض القوى السياسية في ظل مناخ معتل كالذي عاشه اللبنانيون في الفترة الأخيرة، وكاد يجرهم إلى الفتنة العمياء.ولم تكن بغير دلالة أن يمنع تيري رود لارسن من المشاركة في لقاء الرئيس الأسد مع الأمين العام للأمم المتحدة، من دون تحرج…لقد مضت تلك الفترة ـ المحنة التي حفلت بالأخطاء، والتي شوهت علاقات الأخوة بين البلدين اللذين افترض بعض قادتهما ذات يوم أنهما »شعب واحد في بلدين«، أو أنهما يمكنا أن يقدما »النموذج« لما ينبغي أن تكون عليه علاقات التكامل بين دولتين جارتين وشقيقتين، بما يخدم استقلال »الأخ الأصغر« ويصونه ولا يحمله ما هو فوق طاقته.وشكراً لباريس أنها قد وفرت الفرصة لجمع الشقيقين في مناسبة مجيدة، هي النصر في »الحرب الإسرائيلية على لبنان«… وعساها تكون فاتحة طيبة لتجديد الأخوة على قاعدة راسخة.

Exit mobile version