طلال سلمان

نساء يخلعن الأقنعة

أحب أسوان. أحب نهرها وشمسها وأحب أهلها. أحب ألوانها الطبيعية الزاهية بدون رياء. أخاف أن يصل إليها زحف التجميليين الجدد خصوم الجمال الطبيعي. أحب هذا الشهر فيها. أتطلع إليه كلما تعقدت مسالك الحياة في القاهرة وازداد الشوق إلى أسبوع راحة واستجمام. عرفت أسوان صغيرا. قلت لصديق احتل المقعد المجاور لمقعدي في الحافلة التي نقلتنا من المطار إلى الفندق، أستطيع أن أرسم لك من الذاكرة وأنا مغمض العينين تفاصيل الخزان الذي نمر فوقه الآن وما يحيط به من تلال صخرية. كنت ولا شك أبالغ ولكن ليس كثيرا.


دعاني الصديق الجالس إلى جانبي إلى تمضية وقت رحلتنا إلى الفندق في عقد مقارنات غير سياسية بين ما كان وما نحن فيه الآن. جاء ردي سريعا بالموافقة مضيفا أنني بالفعل أزمعت خلال الإعداد للرحلة أن تكون المقارنات موضوع اهتمام المجموعة على امتداد زمن الرحلة. بعض المقارنات حساسة. “إن شئت نبدأ هنا كتجربة في حيز ضيق بواحدة هي الأخف وزنا والأكثر وضوحا. لكن رجاء لا تعلق بصوت عال فالصديقات من حولنا آذان صاغية مهيأة لاستقبال كل ما نقول. يا صديقي لا أذكر أنني في أي مرة قطعت فيها هذا المشوار وأنا طفل في الابتدائية ومراهق في الثانوية وجوال في فريق الكلية ودبلوماسي مرافق لرحلة أجانب أن كان معظم ركاب الحافلة من وزن ثقيل كوزن معظم رفيقات ورفاق هذه الرحلة وكل الرحلات التي شاركت فيها خلال السنوات العشر الأخيرة. هل تعتقد يا صديقي أن مجموعتنا هذه تمثل عينة صحيحة للمجتمع المصري بوضعه الراهن؟ إذا كان هذا بالفعل ما تعتقده وأشاركك إياه، هل خطر على بالك الثمن الذي يدفعه المجتمع من صحته العامة والتكلفة المادية لعلاج الأمراض الناجمة عن هذه الزيادة “الجمعية”؟. أظن أنك تعرف أن شعبا ثقيل الوزن يعني مجتمعا اقتصاديا أقل إنتاجية. أضيف هنا خلاصة توصلت إليها في استطلاع رأي مبسط أجريته قبل أسبوع. توصلت إلى أن هذه الظاهرة، وأقصد الزيادة غير المبررة للوزن، صارت بين الأسباب المباشرة للنفور في بيت الزوجية. وبالفعل قررت على ضوء هذه النتيجة انتهاز فرصة القيام بهذه الرحلة لإجراء مناقشات هادئة حول تداعيات مسألة الوزن وبخاصة مسؤوليته عن جانب من جوانب التوتر السائد في المجتمع المصري. أعدك بأن يكون الموضوع على جدول أعمال هذه الرحلة، هذا إن سمحت الظروف وأهمها أن تسود بين أعضاء العنصر النسوي بصفته الغالب في المجموعة حالة مزاجية مناسبة.


قالت “أعرف أنه يكذب. يزعم في وجودي أنه سعيد بهذا الحجم وينفي أنه كثيرا ما يعرب عن استيائه من هذا الوضع أمام أصدقائه من الرجال وصديقاته من النساء. أذكر جدا أنه لم يكن يعترض في البداية حتى أنه كان يشيد أحيانا بالتنوع في اختيار مواقع الزيادات في الوزن أو يمتدح زيادة بعينها. حدث هذا قبل أن يستفحل الأمر. ثم راح بالتدريج يبتعد. بدأ يدخل إلى الفراش مبكرا جدا أو متأخرا جدا. لا ندخله معا. أما ساعات اليقظة فكان حريصا على قضائها مع هاتفه الذكي، هذا الهاتف الذي صار يقضي في صحبته جل وقته المخصص عرفا وربما شرعا لي. دلني إحساسي الذكي بالفطرة والتجربة معا أنه اختار وزنا مختلفا في مكان آخر يركن إليه أو يسكن فيه. تسألني ماذا عساي فاعلة أجيبك على الفور وبدون تردد. أنا أخطأت وسوف أصحح خطأي بنفسي. وزني يعود إلى سابق عهده وأحسن ولكن من أجلي أنا وليس من أجل زوجي أو سعيا لرضاه. سبقتني صديقات عديدات وأكثرهن يجبن الآن غمار حياة جديدة كلها إثارة وسعادة يحكون عنها ويتحاكون”.

قلت “ولكنك بما تحلمين أو تفعلين إنما تهددين استقرار مجتمع وعائلات وعلاقات. ألست جزءا من هذا المجتمع”. قالت “وأين كان هذا المجتمع عندما كانت المرأة تشكو الظلم والعنف، مجتمع انحاز للرجل ضدها. ثم لماذا يجب أن يتحمل الضعفاء دائما عبء تحقيق الاستقرار وتكلفته الباهظة؟ تحملت المرأة قرونا، صبرت طويلا وكثيرا وأخيرا تمردت، وها هى تقلب الموازين كافة؟”.


جلسنا، صديقة أخرى وأنا، يفصلني عنها كأسان من الشاي الأخضر وصحن عميق تفيض من على جوانبه حبات الفول السوداني وصحن آخر زاخر بمتفرقات الحلوى الشامية حملتها معي من القاهرة. بادرتها بطلب السماح إن تكلمت فيما هو خارج المسموح لرجل أن يتكلم فيه. نظرت حولنا لأزداد اطمئنانا رغم أنني اخترت أن نجلس في موقع في ركن الشرفة المطلة على حمام السباحة وحدائق الفندق الشاسعة. تعودت أن أجلس في هذا الموقع. أفضله على كل ما عداه، فالشمس لا تخطئ طريقها إليه والنسمة الناعمة لا تفارقه والنزلاء في مختلف مواقعهم في أنحاء الشرفة والحدائق المحيطة بعيدون لا يسمعون. أجابت “مسموح لك دائما الكلام في كل شئ فقد خبرناك حتى عرفناك. سمعت أنك مهتم بمعرفة إن كان هناك بين الزوج وزوجته خطوط حمر لا يتجاوزها أي منهما خلال أي حوار يجري بينهما، عاطفيا كان أم عاديا. حضرتك تعرف ما فيه الكفاية عن أخلاقيات الطبقة الوسطى وبعضها كما تعلم يقدس الرياء والخجل. كثير منا يدخل غمار الزواج مزودا بعدد من الأقنعة. لكل حديث قناع ولكل قضية قناع، حتى العاطفة تحتاج لأقنعة متعددة. يا سيدي، في بيتنا وعلى فراشنا رتبنا أمورنا على أن نتعامل مع العاطفة بالصمت. عشت أخشى، مثل أي فتاة أو امرأة أن يصدر عني ما يجعلني محل استفسار وتحقيق وشكوك، كيف ومتى وأين حصلت على هذه المعلومة العاطفية. أخفيت عن الرجل أنني قرأت ذات يوم كتابا أو مقالا محرما على النساء قراءته. تجاسرت ذات مرة وطلبت ما لم تتعود المرأة في مجتمعنا أن تطلب من زوجها. يومها سقطت جميع الأقنعة وحل بالبيت النكد والخصام. وها أنا امرأة في بيت يتهاوى لأن زوجها رفض أن يراها على حقيقتها. امرأة خلعت القناع.


سألتها “أما وقد نجحت وحصلت على حقوق حرموك منها قرونا عديدة، هي في ظني، عمر البشرية، ماذا تريدين الآن من الرجل. على أي هيئة تتمنينه، وبأي قدر من الذكاء والمسؤولية، أتريدين أن تكوني ندا له؟

أجابت “لا يا سيدي أريد منه أن يسعى ويضاعف الجهد من أجل أن يكون ندا لي”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version