طلال سلمان

نزول الى قمة

بالعتب لا بالغضب استقبل القادة العرب »السبق الصحافي« الذي مارسه العقيد معمر القذافي بإعلانه نصوص المسودة الأولى لمشروع مقررات القمة العربية الطارئة التي ستنعقد في القاهرة يومي السبت والأحد المقبلين.
ذلك أنهم يعرفون أن »شعوبهم« تعرف أن السقف في هذه القمة، التي تجيء بعد انقطاع طال أكثر من أربع سنوات، سيكون منخفضا جدا، وأن ما يمكن أن يصدر عنها لا يمكن أن يتجاوز الدعم المعنوي والتحيات الحارة لشهداء »ثورة القدس« والإشادة ببطولة شعب فلسطين وقد باغتهم بانتفاضته العفية فأربكهم ثم… جاءهم الفرج من حيث لا يتوقعون: من القمة التي استبقت قمتهم في شرم الشيخ!
العتب على القذافي يجيء من باب مخالفة الأصول أكثر منه اعتراضا على كشف الأسرار الحربية… ثم إن القذافي هو الآن »واحد منهم«، وقد هدأت فورته فلم يعد يتحداهم بمواقف حادة ضد أشخاصهم أو ضد تبعيتهم للغرب عموما وللولايات المتحدة الأميركية بوجه خاص.
لقد هتك العقيد الذي احترف المباغتة حرمة القمة التي يعرف الجميع أنها لن تشن الحرب على إسرائيل ولا هي ترفع شعار تحرير فلسطين ولا يتوقع منها أحد تأديب الأميركيين لمساندتهم المفتوحة لقاتل الأطفال إيهود باراك.
على هذا فليس متوقعا أن تتحول القمة الطارئة الى ساحة صراع، تتفجر فيها المواقف المتعارضة فتهدد القمة نفسها وتحرج المضيف، او يدفع الخوف من تفجرها بعض القادة الى التغيب او الى هدم الهيكل على رؤوس الجميع!
لا قدرة على الحرب، لا قدرة على فرض السلام، لا قدرة على »استمالة« الأميركيين، للضغط على الاسرائيليين، ولا رغبة أو لا قدرة على التقدم على طريق الوحدة الاقتصادية العربية.
ماذا يتبقى إذن؟!
لمّ الشمل؟ توحيد الموقف على قاعدة »سيروا بخطى أضعفكم«، أم تعديل القاعدة بحيث يسيرون بخطى أقواهم وأصلبهم؟
في القاهرة لا يستشعر المسؤولون، كباراً وصغاراً، أي احساس بالذنب بسبب من قمة شرم الشيخ، ونتائجها التي قد يرى البعض فيها »النجاح الممكن« وقد يرى فيها آخرون انها حققت الغرض المقصود من عقدها وهو وقف حمام الدم الذي كان يرتكبه الاسرائيليون بحق الفلسطينيين.. ليس إلا.
حتى من يسلِّم معك بأنها »قمة بالطلب« أو »قمة بالإكراه« يقول ان مصر استضافتها تحت الإلحاح الفلسطيني أكثر مما تحت الضغط الأميركي، ويجد منطقاً متماسكاً للدفاع عن نتائجها: »لقد توقفت المذبحة، وبدأ فك الحصار عن المدن والمخيمات والقرى والأرزاق الفلسطينية… أليس هذا افضل من الخطب الحماسية والمزايدات التي لا تحفظ حياة طفل، ولا تحمي المؤسسات الفلسطينية قيد التأسيس من تدمير شامل؟!
»لا نحن ولا غيرنا من العرب جاهزون للحرب، ولا عادت الحرب، خصوصاً الكلاسيكية، ممكنة. انه عصر آخر حتى في الحروب، بل لا سيما في الحروب، ولا يملك واحد منا القرار فيها، بل إن احدا منا لا يريدها، فضلا عن القدرة على خوضها… فلماذا اذن المزايدة ومحاولات الإحراج وتأجيج الشارع الذي يمور بالقهر واليأس والفقر وآثار القمع؟!«.
والقاهرة تبدو مزهوة بأن شارعها قد تحرك بحيوية لافتة، ولا يظهر المسؤولون ضيقا فعليا بهذه الظاهرة، وينفون ان يكونوا قد اعتبروها مصدرا للخطر على النظام: »لقد أثبتت الانتفاضة ان فلسطين تسكن في وجدان جميع المصريين، ليس فقط أجيال المحاربين منهم فيها أو من أجلها، وليس فقط الطلائع من مثقفيها وفنانيها والنخب السياسية، بل حتى التلامذة في الصفوف الابتدائية، وبالذات في المدارس الخاصة (وبعضها أجنبي) والتي لا ذكر لفلسطين فيها إلا لماماً، ناهيك بطلاب الجامعات جميعا، المسيّس منهم وغير المسيّس، بل حتى أولىك الذين كانوا لا يظهرون أي اهتمام بالسياسة. الكل نزل إلى الشارع، والكل عبّر عن موقفه… وكلنا يعتز بصورة ذلك الطفل الذي لما يبلغ العاشرة من عمره وهو يحرق العلم الاسرائيلي أمام باب مدرسته الخاصة في أحد أرقى أحياء القاهرة السكنية«.
عند المسؤول المصري الكثير مما يقوله في مواجهة »ضيوفه« العرب الآتين إليه من البعيد يتقدمهم شيء من اللوم بل التشكيك، بل الاتهام الضمني بأنه »قد فرط« بشيء من وهج الدم الفلسطيني في شرم الشيخ: »هل كان المطلوب أن نبقى متفرجين، نطلق الاذاعات تأييدا وننقل صورة المذابح مع فواصل من الرثاء؟! ما كان أسهل أن نكتفي بالشجب واللوم والاستنكار والمقالات بل والخطب النارية، بينما الفلسطينيون يُذبحون والحصار يشتد عليهم ويمنع عنهم الرزق والحركة والنور والهواء!. لقد تحركنا بناءً لطلب الفلسطينيين ومن أجلهم، وقاتلنا بشراسة، ضد الأميركيين الذين كانوا يتبنّون الموقف الإسرائيلي بالكامل، ثم ضد الإسرائيليين المستقوين بالواقع على الأرض، التفوق الكاسح، كما بالدعم الأميركي. للتذكير فإن الوفد الأميركي من الحاجب وحتى وزيرة الخارجية من اليهود، ومعظمهم أقرب إلى الليكود. اجعل دنيس روس عنوانهم. لقد أوقفنا المذبحة، ونجحنا في فك الحصار… والباقي على القمة العربية«.
المنطق العربي المقابل، حتى لا نقول المضاد، لا يتعلق بالأوهام ولا ينادي بالمستحيل. ان أقرب صيغة إليه هي تلك التي أعلنها لبنان بلسان رئيس حكومته سليم الحص، والتي تقارب المنطق السوري، وقد لا تعارضها السعودية وبعض دول الخليج ويمكن تلخيصها بالتالي: »نعرف ان الحرب مستحيلة، ولا أحد يقول بها. كذلك فلا مجال للمزايدة بقصد »التمريك« أو الإحراج بطلب ما يستحيل تنفيذه من إجراءات »انتقامية«.. ولكن:
ماذا يمنع دول الأطراف التي فتحت مكاتب وممثليات تجارية مع إسرائيل (المغرب، تونس، عُمان، قطر) من إقفال هذه النوافذ التي تحمل إلى الإسرائيليين المزيد من الهواء وتكسر طوق الحصار السياسي ثم الاقتصادي والتجاري استطرادا تبرعاً؟!
وماذا يمنع من العودة إلى الالتزام بالمقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، والمتعاملين معها؟!
وماذا يمنع توحيد الموقف من التسوية، بحيث لا تمكّن إسرائيل من استفراد كل طرف عربي على حدة، ومهما اشتد الضغط الأميركي؟!
لماذا لا يتلاقى العرب فعليا ولو على قاعدة الحد الأدنى سياسيا واقتصاديا، وبالذات في ما يتصل بالنتائج الخطيرة المترتبة على الطور الراهن للصراع العربي الإسرائيلي؟!
إذن، فلننتقل إلى ما هو عملي ونافع للعرب، ومن ثم ما قد يضيق المجال على هذا الغزو الإسرائيلي الذي لا يجد ما يصده؟!
* * *
الشارع فوق،
القمة تحت،
كيف النزول من الشارع إلى القمة… تلك هي المعضلة!
لكن القاهرة لا تبدو قلقة لا من القمة ولا عليها!

Exit mobile version