طلال سلمان

نداء انذار اخير

من زمان لم يسمع اللبنانيون كلاماً مسؤولاً وشجاعاً يتعالى فوق الخلافات السياسية التي اتسعت للدول جميعاً، بمصالحها التي لا تلحظ وجود لبنان إلا كمعبر إلى غيره، ليطرح مشروع حل يعطي فيه من حقوقه لتكون وحدة ولا يتطاول على حقوق شركائه الآخرين ليؤكد استقواءه بالخارج على الداخل، ولتتم له الهيمنة على مقدرات دويلة أو مزق من الدويلات، ولو كان الثمن الوطن بوحدة شعبه ودولته الجامعة.
أمس، من بعلبك، أثبت نبيه بري مرة أخرى أنه رجل دولة ، وأنه جدير بأن يتحدث حاضراً باسم المغيَّب الإمام السيد موسى الصدر الذي كان اللبنانيون يرون فيه قائداً كبيراً يعزّز فيهم وحدتهم وإيمانهم بدولة يفيئون إليها جميعاً، وتعاملهم جميعاً بوصفهم مواطنين متساوين في وطن واحد يحفظونه فيحفظهم، ويصونون استقلاله بهويتهم وتصونهم دولتهم بحقوقهم كاملة، بلا تمييز ولا استئثار ولا استقواء بالخارج على الداخل أو بالكثرة على القلة… ناهيك بتجرؤ القلة على الكثرة.
خاطب نبيه بري اللبنانيين، أمس، من بعلبك التي اكتشف فيها السيد موسى الصدر أهلها بينما دولتها ومسؤولوها لم يكونوا يعرفون منها، على مرّ العهود الاستقلالية، إلا حجارة قلعتها بوصفها استثماراً سياحياً مجزياً ..
لم يعرض نبيه بري على الأكثرية هدنة أو مصالحة عشائرية لا تساوي كلفتها من الضيافات ، ولم يكتفِ بدق ناقوس الخطر، بل تقدم وبشجاعة تحسب له بمشروع حل جدي، متجاوزاً أحقاد خصومه القدامى والمستجدين الخائفين من التسوية الوطنية لضعفهم التكويني، وحساسيات حلفائه الخائفين من قوتهم على موزاييك الكيان.
أطلق نداء استغاثة إلى الأخوة العرب، وبالذات مصر والسعودية وسوريا، ومعها إيران، منبهاً من خطر الانهيار اللبناني بالفتنة عليهم جميعاً، لكي يساعدوا على ترشيد التائهين، وإعادة الشاردين إلى وعيهم، من أجل تسوية كانت دائماً شرط حياة للبنان.
بل إنه نوّه بالعهد الجديد في فرنسا لمبادرته الطيبة وطالبه بالاستمرار فيها، لعلها تساعد على اكتشاف الحل الذي لا يحتاج إلى مكتشفين!
و تراجع من أجل احتضان الأكثرية فأسقط مبدأ حكومة الوحدة كشرط للتوافق على الرئاسة ، وقال بانتخاب رئيس توافقي صُنع في لبنان في المواعيد الدستورية وبأكثرية الثلثين ، مقدماً الفرصة الأخيرة لإخراج لبنان من مأزقه.
ولأنه كان يتحدث وكأنه الضمير فقد أكد أن ليست أي منطقة لأي طائفة ، و خط الدفاع عن بيروت يبدأ من مارون الراس وأنه لولا المقاومة لما كان لبنان على خارطة العالم …
وبرغم أن السلطة، في رأيه، لم تعد تمثل الحاضن الجامع لكل المناطق والفئات والجهات والطوائف والمذاهب، وبالتالي فقدت شرعيتها ودستوريتها وميثاقيتها .
.. وبرغم العقلية الأحادية التي حوّلت البلاد إلى مربعات أمنية .
.. وبرغم أن هذا الوضع الشاذ قد أوصلنا إلى نقطة امتحان الجيش في الحرب ضد الإرهاب ومخازن الذخيرة والعتاد فارغة … وتذكيراً بما جرى ويجري في نهر البارد، هو أقل ما يمكن أن يقال حول المسؤولية عن هذا الجرح المفتوح والنازف حتى.. الغد!
برغم كل ذلك فقد وجد نبيه بري في نفسه من الشجاعة ما يكفي ليتقدم بعرض للتسوية سيلومه عليه حلفاؤه إذا ما قبله الخصوم ، فكيف إذا ما افترضنا بقليل من حسن الفطن أنهم سيرفضونه، لأنهم يعيشون حالة المقامر الذي يتوهم أن هذه هي لحظته الأخيرة مع الحظ، فإن هو فرّط بها راحت عليه وانتهى مفلساً.. مع وعيه الكامل بأن الإدارة الأميركية لا تحب أن تضيف إلى رصيد أرباحها في المنطقة المزيد من المفلسين!
إنه النداء الأخير لإنقاذ لبنان..
من هنا، وبرغم كل التنازلات التي تضمنها، فهو أشبه بالإنذار الأخير الذي يخشى ألا يسمعه من يصوّر لهم الحليف الأكبر أن قوتهم أسطورية، وأنهم بغلطهم أقوى على الحق وأصحابه طالما أن الخارج أقوى من الداخل… وكأن الدولة التي يريدها اللبنانيون يمكن أن تستوردها الأكثرية جاهزة ومفروشة بسكان من غير أهلها..
والتمني، مرة أخرى، أن تنتبه الأكثرية ، وفيها من لا ينقصهم الذكاء السياسي، إلى الحقائق الأصلية التي يقوم عليها لبنان… وأن يغلب الوعي الغرور معززاً بالهمس الأميركي الخبيث، فتكون تسوية، يبدأ منها العهد الجديد الذي لا تمكن صناعته إلا باللبنانيين جميعاً، وإلا قضى جميعنا قبل أن يبصر النور.

Exit mobile version