الاستعمار، كل استعمار، عبقري في تفتيت الامم والشعوب: انه يدرس “المكونات الاصلية”، ويفرز “الاقليات” فيزيد من شعورها بالاستضعاف ليرتهنها ويستغلها لأغراض هيمنته وفقاً لقاعدة “فرق تسد” المعروفة.
..وعندما جاء الاستعمار الغربي ليرث الاحتلال التركي اخذ عنه هذا “المبدأ” وطوره وحاول تثبيته على الارض، بالطائفية حيناً والمذهبية حيناً اخر والعنصرية حيث تسمح “المكونات” في البلدان المعنية.
قسمت اقطار المشرق، بداية: سلخت الكويت عن العراق، وتم تزيين الانفصال ولو بالحكم الذاتي، ثم استبعد الشيعة عن القيادة وتم منحها للسنة عبر غموض الانتماء المذهبي لفيصل الاول ابن الشريف حسين، بعدما طرده الاحتلال الفرنسي من دمشق.. ثم تم اختراع “شرقي الاردن” لتعطى لعبدالله النجل الثاني للشريف حسين .. قبل تقسيم سوريا إلى اربع “دول” احداهما “علوية” عند الشاطئ، وقسمت حوران بين مسلميها ومسيحييها ودروزها (في جبل الدروز)، وهكذا اصبح المسرح جاهزاً لإقامة المشروع الاسرائيلي على ارض فلسطين.. وجيء اليه بالشركس والتركمان الهاربين من تركيا اتاتورك وروسيا التي صارت الاتحاد السوفياتي لزيادة اعداد “الاردنيين”.
ها نحن الآن، في ظل الاستعمار الجديد ـ الاميركي، واسم دلعه: (الامبريالية) الذي يريد الهيمنة المطلقة على منطقتنا الغنية بمواردها الطبيعية وموروثاتها الجينية (عرب اساساً ومعهم شيء من الفرس، وشيء من الروم، وشيء من الاتراك، والاحباش وشيء من الغرب الحديث، بريطانيا وفرنسا فضلاً عن اليونان والطليان الخ..)
ها نحن نشهد تصدع الكيانات السياسية العربية نتيجة الحروب التي لجأ اليها بعض قادتها، من دون مبرر مقنع: حرب صدام حسين على ايران (لمدة سبع سنوات ثقيلة) ثم حربه على الكويت واحتلالها مما استنفر العالم ضده وجاءت الدول عربية واجنبية لقتاله، واخراجه منها.. ثم دخلته القوات الاميركية واحتلت ارضه جميعاً، فثبتت “انفصال” كرده عن عربه في كيان باستقلال ذاتي، وكرست فيه الطائفية مستغلة “طغيان” السنة على الحكم فانتقلت به إلى الشيعة.. واستدعت القيادات غير المهيأة للحكم فأضافت إلى خرابه بوادر فتنة جديدة.
1 ـ خرجت مصر بعد عبد الناصر من ميدان النضال القومي بعدما انهكتها اعباء دورها، فكان العدوان الثلاثي في خريف العام 1956 حيث شارك العدو الاسرائيلي مع بريطانيا وفرنسا، بذريعة الرد على تأميم الشركة العالمية لقناة السويس .. وجاء الرد على هذا الرد بالتقدم نحو حلم “الوحدة” بإقامة “الجمهورية العربية المتحدة” نتيجة اندماج مصر وسوريا في دولة واحدة (1958).. ثم كان “الانفصال” نتيجة الغفلة ونقص الاستعداد لمثل هذا المشروع التاريخي الذي من شأنه أن يغير جغرافية المنطقة مستولداً دولة قوية “تصون ولا تبدد، تحمي ولا تهدد، تشد ازر الصديق وترد كيد العدو…”
2 ـ في الاول من ايلول سبتمبر 1969 قام الجيش الليبي بقيادة معمر القذافي بخلع الملك ادريس السنوسي واعلان مقدماً الجماهيرية العربية الليبية هدية لعبد الناصر..
بالمقابل اخذ انور السادات مصر بعد ايقاف الحرب في 6 اكتوبر ـ تشرين الاول العام 1973 إلى الصلح مع العدو الاسرائيلي عبر مفاوضات كمب ديفيد بالرعاية الاميركية، متخليا عن شريكته في هذه الحرب ورفيق سلاحه سوريا حافظ الاسد.
3 ـ كان الصف العربي قد عاد إلى التشقق، وشن ملك الاردن حرباً أخرج فيها المقاومة الفلسطينية من حيث كان منطلق عملياتها ضد العدو الاسرائيلي، (الاغوار) فجاءت فصائلها المختلفة سياسياً وعقائديا إلى لبنان فأثقلت عليه بكاهلها.. وسرعان ما افسدت بيروت “بمغرياتها” العديدة هؤلاء المجاهدين فغرقوا في شؤون لبنان الداخلية وحساسياته الطائفية مما برر التدخل العسكري السوري لوقف الحرب الاهلية فيه..
4 ـ في اوائل حزيران ـ يونيه ـ تقدم جيش العدو الاسرائيلي، الذي كان قد احتل قسماً كبيراً من ارض الجنوب، نحو بيروت لإخراج المقاومة الفلسطينية منها… وقررت “الدول” بالقيادة الاميركية التدخل لتأمين اخراج هذه المقاومة من لبنان وتشريد فصائلها في اربع رياح الارض العربية.
صار العدو الاسرائيلي طرفا في الصراع الداخلي اللبناني..وهكذا امكنه “تأمين” وصول بشير الجميل، الذي كان زار اسرائيل اكثر من مرة والتقى قياداتها، إلى رئاسة الجمهورية في منتصف شهر اب (اغسطس) … لكن بعض الوطنيين قاموا باغتيال بشير الجميل وكتسوية جيء بأخيه امين الجميل رئيسا.
بعد انتهاء ولاية امين الجميل حاول تجديدها متمنياً على الرئيس السوري حافظ الاسد دعم مسعاه، فلما رفض، سلم الحكم في آخر يوم له كرئيس لقائد الجيش العماد ميشال عون، الذي “رغب” في أن يحكم لبنان “رئيسا” (بدعم من صدام حسين ضد الاسد) فخاض حربين في الداخل، وانتهى به الامر لاجئاً سياسياً في فرنسا.
5 ـ على الجبهة العراقية وبعدما بات صدام حسين الزعيم الاوحد، شن حرباً ضروساً استطالت لسبع سنوات ضد ايران الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني، انتهت بتسوية رأى فيها الخميني كأس السم، لكنه شربه مرغماً..
بعد سنتين اقدم صدام حسين على احتلال الكويت في 2 اب (اغسطس) 1990 .. فهربت اسرتها الحاكمة وذاق شعبها الصغير الأمريّن، قبل أن تنشئ الولايات المتحدة الاميركية حلفاً مع بعض القادة العرب وتهاجم القوات العراقية فتطردها من الكويت في 26 شباط (فبراير) 1991، وتتقدم لاحتلال بعض العراق..
..وفي العام 2003 تقدمت القوات الاميركية، لتحتل ما تبقى من العراق حتى العاصمة بغداد، فأعدمت صدام حسين بعد اعتقاله في 30 كانون الاول (ديسمبر) 2006 ، وسلمت “الحكم” للشيعة لتكون فتنة.
يمكن التوسع اكثر فأكثر في تفاصيل الخيبات والهزائم التي مُنيت بها الأمة ودمرت او كادت تدمر دولها الاساسية، أو اخراجها من ميدان الصراع مع العدو الإسرائيلي (مصر في البداية ثم الاردن، ثم المقاومة الفلسطينية بعد اخراجها من الاردن عام 1970، ثم من لبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982).. وبعدها العراق 2003.
في حزيران العام 2000 توفي الرئيس حافظ الاسد في دمشق.. وتم اختيار نجله الثاني بشار الاسد رئيسا.. وبعد فترة وجيزة من تجديد الولاية الأولى للأسد الثاني، بوشر العمل لتفجير سوريا، بتوظيف الطائفية والمذهبية واخطاء النظام والتدخل التركي والضغط الاسرائيلي.
في 12 تموز 2006، وأثر عملية فدائية في جنوب لبنان، شن العدوان الاسرائيلي حربا شاملة ضد لبنان شملت جنوبه وعاصمته بيروت والبقاع وبعض الجبل والشمال لضرب قواعده وخطوط امداده، وتحريض الحكام العرب ضد هذا الحزب المجاهد بذريعة انه “ايراني”.
انتهت هذه الحرب بهزيمة ساحقة للعدو الاسرائيلي.. وكان التضامن العربي باهتاً وشكلياً، على المستوى الرسمي، في حين التفت الجماهير العربية في مختلف الاقطار، مشرقاً ومغرباً حول المجاهدين في لبنان بقيادة السيد حسن نصرالله.
الصورة اليوم مختلفة تماماً:
ـ مصر تربطها معاهدة مع العدو الاسرائيلي، وتقوم بينها وبينه اشكال من التعاون في مجالي النفط والغاز وبعض المجالات الاقتصادية..
ـ سوريا غارقة في دمائها تحاول عبثاً الخروج من الحرب التي تدور فيها وعليها، والتي تبذل تركيا جهوداً حثيثة لتمزيقها والاستيلاء على بعض جهاتها، لا سيما في الشمال والشرق.. كما بعث الاميركيون ببعض القطعات العسكرية إلى دير الزور، والى حيث يقاتل الاتراك مع “المعارضات المختلفة”..
ـ العراق في صراع الطوائف على السلطة (الشيعة والسنة) والفساد الداخلي، والنزعة الاستقلالية عند الاكراد، وترسبات الاحتلال الاميركي المعزز ببعض الوحدات العسكرية البريطانية والفرنسية .
ـ ولبنان مهدد بفتنة طائفية نتيجة قصور نظامه وبالتالي دولته وحكومته الطوائفية عن معالجة مشاكل البلاد: البطالة، خروج الشبان المؤهلين إلى أي بلد عربي يقبلهم، فاذا ما تعذر فإلى الغرب بعنوان الولايات المتحدة الاميركية.
ـ وأما اسرائيل فتعزز قدراتها العسكرية والاقتصادية بالدعم الاميركي المفتوح والتخاذل العربي، فيجتاح نتنياهو عواصم عربية جديدة (سلطنة عُمان، ودولة الامارات، ويهدد العراق، ويغير طيرانه الحربي كل يوم تقريبا على سوريا وعبر اجواء لبنان، بذريعة ايران مبتعداً عن القواعد الروسية على الشاطئ السوري.. )
نحن بخير ..طمنونا عنكم!
في انتظار تنفيذ “صفقة القرن” التي يروج لها جاريد كوشنر صهر الرئيس الاميركي العظيم دونالد ترامب، والتي تستهدف تصفية قضية فلسطين وفتح ابواب الدول العربية جميعاً للعدو الاسرائيلي!.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية