طلال سلمان

نجاح حكومة »الفرصة اخيرة« ومسوولية رئيس جمهورية

لا تتحمّل اللحظة السياسية، بمخاطرها الداهمة، ترف العتاب واللوم… فما جرى قد جرى، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل التمديد، كما لا يمكن تجاهل ما رتبه التمديد من أعباء إضافية على لبنان وسوريا، منفصلين ومتحدين.
لقد بات لبنان تحت نوع من »الوصاية الدولية«.. وها هم السفراء الأجانب يصولون ويجولون ويطلقون الآراء التي لا يمكن الإنكار أنها تشكل نوعاً من التدخل »اللطيف« في الشؤون الداخلية للبلد الذي يمثلون دولهم لديه، بل إن التجرؤ على السيادة والاستقلال قد وصل ببعضهم إلى حد تقديم صياغة أولية للبيان الوزاري للحكومة العتيدة.
كذلك فقد فرض على سوريا بعد العقوبات المنصوص عليها في قانون المحاسبة الأميركي نوع من الرقابة الدولية القاسية التي تمس كرامتها الوطنية فضلاً عن دورها القومي، فقرار مجلس الأمن الرقم 1559 ثم تقرير كوفي أنان، دخل في التفاصيل وحدّد وسمّى، وإذا كان البيان الرئاسي قد حذف »الأسماء« فإنه قال في كل حرف منه إن سوريا هي المتهم الأول بل الأوحد بالتدخل في شؤون لبنان الداخلية، وأن عليها ليس فقط أن تجلو عن أرضه، وإنما أن تساعد على تصفية »حزب الله«، بعد تصنيفه كميليشيا مسلحة!! ومعه »تطهير« المخيمات الفلسطينية من حشود »الإرهابيين« الذين يختبئون فيها تحت حماية سورية مباشرة…
أعطت الإدارة الأميركية لنفسها من الحقوق في لبنان ما يمكن اعتباره مصادرة »للقرار الوطني المستقل«، ولعل فرنسا بحكم دالتها الخاصة قد ذهبت أبعد من ذلك، حتى لو امتنع سفيرها عن التصريح العلني.
كذلك فإن التظاهرة الوداعية للرئيس رفيق الحريري التي احتشد فيها جمع غفير من السفراء العرب والأجانب كانت في دلالتها السياسية تتخطى تكريم شخص الرجل الذي شغل رئاسة الحكومة لأكثر من عشر سنوات، والذي كان ولعله ما زال »مالئ الدنيا وشاغل الناس«، إلى نوع من الاحتجاج الضمني على »التمديد« الذي مكّن الرئيس لحود من »إخراجه«، تمهيداً لوضع اليد على مزيد من السلطات التي ليست له.
لقد تبدى هؤلاء السفراء في مشهد هو أقرب إلى »لجنة وصاية« على الحكم، مما يذكر بمشهد »القناصل« في بعض مسرحيات الرحباني، الذين كان يستعين بهم الأمير فخر الدين على السلطان العثماني… من أجل »استقلال الإمارة« وممارسة قراره الوطني الحر!
على هذا فلا بد من مصارحة الرئيس إميل لحود بأن لبنان يعيش في قلب الخطر، وأن سوريا تواجه »حرباً دولية« تلاقى عليها الأضداد والمتنافسون وقد اتخذوا من دورها في لبنان الذريعة، بينما مشروع »المحاسبة« يتصل بالنكسات التي يتعرض لها الاحتلال الأميركي للعراق، وهو لا يجد لعلاجها إلا »التبشير« بحرب أهلية في بلاد الرافدين تطال شعبها بتلاوينه القومية والدينية والطائفية جميعاً، العرب والكرد والتركمان، المسلمين، سنة وشيعة، والمسيحيين، وصولاً إلى اليزيديين.
… كما أنه يتصل بالتغطية على عملية الاستئصال الوحشية التي تقوم بها تحت أنظار العالم أجمع حكومة السفاح شارون ضد فلسطين، بشعبها وأرضها (فضلاً عن سلطتها المتهالكة)، وهي مستمرة ومتواصلة تحصد المزيد من أبطال المقاومة والأطفال الذين يعدمون رمياً بالرصاص علناً وأمام الكاميرات، وبرصاص جنود نظاميين!!
ونفترض أن الرئيس لحود يدرك مخاطر اللحظة وما يترتب عليها من أعباء،
ونفترض أن من حق اللبنانيين أن ينتظروا منه، بالتالي، أن يوفر عليهم المزيد من المشكلات والإشكالات السياسية، بل وأن يتصدى مباشرة لحسمها، ولو بشيء من »التنازلات« التي يمكن أن تعيد الأمور إلى نصابها فتقوم حكومة قادرة ومؤهلة على أداء واجبها في لحظة الخطر هذه.
فبصراحة: لقد آن أن يتخلى الرئيس لحود عن منطقه القائل »لم أطلب شيئاً لنفسي«، في حين أنه »أُعطي« فوق ما أخذ أي مسؤول في تاريخ لبنان الحديث.
لقد شُرِّف بمنصب قيادة الجيش، بصلاحيات مطلقة تشمل أجهزته كافة، لمدة تسع سنوات متصلة، وتمت حمايته حين اختلف في فهمه لمهماته الوطنية مع الرؤساء جميعاً، وحين »تجاوز« صلاحياته بمبررات ارتأى أنها تخدم قضية حماية الجيش من مداخلات السياسيين، وتمكينه من ممارسة دوره السامي في حماية ظهر المقاومة وهي تجاهد لطرد الاحتلال الإسرائيلي.
ثم إنه قد حظي بتكريم استثنائي حين تم تعديل الدستور، من أجله، مرتين: الأولى ليتمكن من أن يصل إلى سدة الرئاسة، والثانية لكي يحظى بثلاث سنوات إضافية في هذه السدة.
بل لقد تم »تطويع« المجلس النيابي، في مواجهة العالم كله، لإنجاز هذه المهمة
كما تم »تطويع« »صاحب الحذاء الذهبي« رفيق الحريري الذي سرعان ما أُحرج فأُخرج، بعدما أعطى صوته للتمديد، تقديراً منه للضرورات التي تبيح المحظورات، وفقاً لما قدرته القيادة السورية…
كذلك فقد تسبّب التمديد بأن يفرنقع الحلفاء، وأن يتحولوا إلى متنافسين وربما الى خصوم، خصوصا إذا ما أضفنا إلى الإشكالات السابقة، ما يبرز الآن من مشكلات تعترض طريق »الفدائي« عمر كرامي الذي كلف بمهمة استثنائية في دقتها، والفشل فيها يقود إلى مخاطر تتجاوز كل حساب.
إن على عمر كرامي أن يواجه المعارضات، بتلاوينها المختلفة والحساسيات الطائفية والمذهبية التي تعكسها أو تسعى إلى ادعاء تمثيلها.
… وأن يواجه »الحلفاء« الذين صاروا أشتاتاً يتنافسون على وزارات السيادة وحقائب الخدمات… والمعركة هنا أصعب من مواجهة المعارضات، فكيف إذا انضم إليها، بالقصد أو بالمسايرة، رئيس الجمهورية، ولو عبر الأنسباء ورفاق الصبا والأصدقاء خارج الدوام الرسمي؟!
وبالتأكيد فإن الرئيس لحود يعرف حساسية موضوع الصلاحيات، لا سيما بعد التجربة المريرة مع الرئيس رفيق الحريري، التي آن أن تنتهي، فلقد حانت لحظة التخلص من »المكايدة«، وآن أن تُزاح الشكوك التي حكمت العلاقة بين الرئيسين، على امتداد السنوات الأربع الماضية.
كذلك فإن الرئيس لحود يعرف الآن أن الخسائر لا تحسم من رصيده وحده، الذي ذهب الكثير منه عبر معركة التمديد، بكل ما اشتملت عليه من وقائع غير مستحبة، في الداخل والخارج، بل تحسم كذلك من رصيد سوريا الذي ناله الكثير من الضرر، والأخطر أنها تحسم أيضاً وأيضاً من رصيد »المقاومة«، خصوصاً أنه حرص على تقديم نفسه دائماً بصورة »رئيس لبنان المقاوم«، وذلك دور يذكر له فيشكر عليه، ولكن الحديث عن الغد لا عن الأمس، والصورة الآن مختلفة جذرياً عما كانت عليه قبل سنة مثلاً، وقبل التمديد على أي حال.
إن قرارات أساسية مطلوبة من الرئيس لحود في هذه اللحظة، لكي تمسح ما لحق بالتمديد من تشوهات.
إن الحكومة الجديدة فرصة أخيرة للعهد، وليس لعمر كرامي الذي قبل المهمة كجندي يحارب في الخطوط الخلفية لمعركة قومية تستهدف بالخطر لبنان ومعه سوريا.
وبقدر ما يناط بهذه الحكومة من مهمات صعبة، في مدى زمن قياسي بقصره (بضعة شهور) فإن الواجب الوطني يفرض على رئيس الجمهورية، خصوصاً، أن يعمل بكل جهده لتسهيل مهمتها، وأن يساعد مباشرة على حسم بعض الإشكالات والتنازل عن بعض المطالب التي ربما كان يجد لنفسه العذر سابقاً في تبنيها أما اليوم فهي تواجه »الفارس الأخير« الذي لا بديل منه، والذي إن فشل لا سمح الله فلن يكون هو بشخصه المسؤول عن الفشل، بل ستتجه الأنظار بالمحاسبة إلى من تسبب بفشله وإجهاض المحاولة الإنقاذية.. الأخيرة؟!
إن المعارضات المختلفة، المعلن منها والمضمر، توجه خطابها ضد رئيس الجمهورية، وعلى رئيس الحكومة المكلف أن يواجهها، وهذا مفهوم، لأنه يختلف، بنهجه، معها.
أما المعارضات المستجدة، ومن »أهل البيت« فأمرها أصعب لأنها تربك المهمة الإنقاذية، وتضع عمر كرامي في مواجهة إميل لحود مباشرة، بينما المنطق والمصلحة والضرورة تفرض عليهما التعاون إلى حد التطابق الكامل مع احتفاظ كل رئيس بصلاحياته كاملة.
إن نجاح عمر كرامي في مهمته الصعبة سيحتسب نجاحاً للرئيس لحود، ومعه التمديد، وسيحد من التدخل الأجنبي الذي يكاد يتحول إلى »وصاية« على الحكم، ويكاد يحوّل لبنان إلى منطلق للهجوم على سوريا يسد عليها الأفق، إذا ما استذكرنا حال العراق تحت الاحتلال الأميركي وحال فلسطين أو ما تبقى منها تحت الاحتلال العنصري الإسرائيلي.
وباختصار: لقد آن أن يبرر الرئيس لحود التمديد، عبر حكومة »الفرصة الأخيرة«، وأن يحاول إقناع اللبنانيين بأنه كان يستحق كل ما بذل من أجله.
وأبسط الشروط أن تطلق يد عمر كرامي، الحليف، في ما لم تطلق فيه يد »الخصم« رفيق الحريري فيقوم مجلس الوزراء كمؤسسة مستقلة بصلاحيات كاملة لكي تستطيع أن تنجز المطلوب منها وهو كثير كثير وخطير خطير…

Exit mobile version