طلال سلمان

نتواصل بالرموز والرسوم

“سمعتهم يتخاطبون. وقرأت بعض ما يكتبون. ما زلت أرفض أنهم، سواء كانوا كثيرين كما يزعم البعض أو قليلين كما أتمنى، لا يمثلون علامة من علامات مستقبل. هم لا يجيدون العربية، لغة ديانة أكثرية أمتهم واللغة الرسمية لدول ينتمون إليها. وحين أقول إنهم لا يجيدون العربية فأنا في الواقع أحاول تجميلهم، فالعبارة الأدق في وصف حالتهم هي إنهم لا يتكلمون العربية. أكتب هنا عن أشخاص حلوا محل شخصيات كنا نتباهى بها أمام أقراننا العرب، حين كان للعرب وطنا قبل أن ينحدر فيستحق عنوانا مختلفا أقل في القيمة والمكانة. صار الوطن العربي في الخرائط منطقة وكذلك في كتيبات التربية الوطنية والتاريخ الحديث وخطب القادة والزعماء وعناوين الصحف والدوريات ونشرات الأخبار. أفهم ما حدث للوطن الكبير، وأفهم أيضا ما حدث للوطن الصغير، ولكن ما استعصى على الفهم عامة وفهمي بخاصة كان تدهور النطق بالعربية عند نسبة كبيرة من العاملين في ساحات القانون ودور المشافي وقيادات الأمن والسياسة وأعضاء المجالس النيابية وفي المدارس والجامعات. عرفنا أن العرب، والمصريين بخاصة، وقعوا لمدد طويلة تحت حكم أجانب لم يهتموا باللغة العربية إلا فيما يخص أغراض الإدارة، ومع ذلك صمدت اللغة العربية. الغريب أن اللغة بدأت انحسارها المتسارع بالرغم من رحيل الحكام الأجانب وتولي قيادات عربية نواصي الحكم. تكالبت فيما يبدو على اللغة ضغوط فرضت بعضها تطورات حالة العولمة وفرضت البعض الآخر ظروف تتعلق بانحدار النهضة في كل أنحاء المنطقة العربية. المؤكد أن حكومات عديدة في شتى أنحاء العالم العربي اهتمت بتحسين أشياء والمحافظة على أشياء ولكن يجب الاعتراف أن غالبيتها لم تعط الاهتمام الكافي للغة العربية بدليل أن أغلب أولياء الأمور في دول تحكمها بالوراثة عائلات وقبائل لا يجيدون اللغة العربية، الأمر الذي يشير إلى أن الأجداد والآباء لم يهتموا بتلقين أبنائهم هذه اللغة.

أطلت فاعذراني ولكني أتطلع لشهاديتكما في القضية التي اجتمعنا للتداول فيها. كلاكما من جيل مختلف عن الآخر وعني، وكلاكما تعملان في حقول تسمح لكما بالاختلاط بقواعد من الشباب واسعة ومؤثرة. بمعنى آخر أنتما أقرب للمستقبل مني وأقدر على وضع تصور لحال اللغة العربية في العقود القليلة القادمة. الكلمة الآن لكي يا حسناء.


أشكرك يا سيدي على هذا العرض الموجز لمشكلة حقا خطيرة. كانت مفاجأة حين سمعنا محامين مشهود لهم بالوطنية والرغبة في التغيير، سمعناهم يترافعون بعربية هزيلة ومفككة وباعثة لإحباطنا ومثبطة لهمم القضاة والمستشارين الذين انتصبوا في محاكمهم في انتظار دفاعات مقنعة بلغة مؤثرة. كنا قد فهمنا منذ كنا طلبة في الجامعة أن طالب الطب سوف يتخرج وقد تضعضعت لغته العربية بعد سنوات عديدة قضاها يدرس الطب باللغة الإنجليزية، وأن طالب الهندسة قد يكون أحسن حالا ولا عذر لبقية الطلبة الذين يدرسون الإنسانيات. أتصور أن أسبابا كثيرة تفسر حال انحدار اللغة العربية. ولكن قبل أن أناقش الأسباب أحب أن أعرب عن اعتقادي أن الانحدار لم يكن لحساب انتعاش لغة أو لغات أجنبية. في رأيي أنه بينما كان انحدار اللغة العربية عاما وشاملا غطى كافة الطبقات كان انتعاش اللغات الأجنبية وبخاصة اللغة الإنجليزية من نصيب فئة ضئيلة من طبقة متميزة في المجتمع المصري.

أحب أيضا أن أشير إلى الفضل الكبير لقواعد وسلوكيات مرحلة العولمة على انحدار اللغة العربية في مصر. ولدت في مرحلة كانت تشهد بدء انحسار العولمة ونشأت وسط موجة عارمة من ثقافة الاستهلاك والتلقين غربية، وبالأصح، أمريكية المحتوى واللغة والتوجه. لا أظن أن طبقة في المجتمع المصري لم تمسها هذه الموجة بدليل أن لا أحد في الدولة أو المجتمع المدني اهتم بواجب دعم اللغة الأم وإنقاذها من طوفان المفاهيم والكلمات المستعارة من الخارج. لا يعفي أحدا من المسؤولية حقيقة أن مصر لم تكن الضحية الوحيدة للعولمة ولكني أعرف أن دولا أخرى ومنها الهند تنبهت فيها قوى اجتماعية وسياسية للخطر الذي يواجه “الهندية” كلغة وتراث وعقائد، وبالفعل وصلت إلى الحكم بأغلبية ساحقة وهدفها محدد وواضح.. عزيزي سامح فلنسمع رأيك.


صديقتي، وليسمح لي أستاذنا، ربما بالغت في حديثك عن قيمة الدور الذي لعبته العولمة متسببة في انحدار اللغة العربية وتدهور مكانتها. لن أقلل من هذا الدور ولكني سوف أنبه إلى دور آخر لا يقل أهمية وهو دور الطفرة الهائلة في التقدم التكنولوجي حتى وإن لم يصل إلينا منه إلا طلائعه، وفي أحيان القشور فقط. لن أطيل في التقديم وأتوجه مباشرة إلى صلب قضيتي. أعتقد أن دور السوشيال ميديا، وبخاصة الفيسبوك والتغريد، أهم وأبقى إلى يومنا من أي دور آخر. أقصد بطبيعة الحال الاستخدام المفرط للإنسان المصري، طفلا كان أم شيخا، لكلمات ومفاهيم لغة هجين أقرب إلى الإنجليزية ومستحيل تعريبها في كلمات أو عبارات سهلة ومفهومة.

ولكن ليس هذا وحده ما أرمي إليه. أدعوكما للتأمل قليلا في توجه القائمين على إدارة السوشيال ميديا نحو نمط للتراسل والمخاطبة يميل بشدة للإيجاز المفرط، ومعظم الإيجاز يأتي على حساب اللغة. ثم أن هذا النمط يتطور بدرجة، أقول مخيفة، نحو استخدام الرموز والرسوم محل أكبر عدد ممكن من أفكار ومضامين الرسالة أو الخطاب. الآن يضعون للمستخدم مجموعة هائلة من وجوه، وجه يبتسم رضاء واستمتاعا، ووجه غاضب محتج أو معترض، ووجه متشكك وآخر متربص وخامس متعاطف وسادس مشمئز، وجوه كل منها يلخص في ذاته سطورا وفقرات وخطابات كان يمكن للمستخدم أن يكتبها ليعرض فيها رأيه. هو الآن يعبر عن موقفه من خلال وجه رسمه شخص بعيد جدا. ما فعله هذا الشخص لا يخرج في حقيقة الأمر عن أنه أضاف وسيلة مبتكرة لتقييد حرية المستخدم في التعبير عن رأيه. أعترف بأن هذه الوسيلة تستحق اعتبارها قمة في الإبداع. أقصد ما حققته في خدمة أهداف نظام عالمي قادم على الطريق يرفض الاعتراف بالقيم الليبرالية.

عزيزتي حسناء: لقد أصبحت السوشيال ميديا برموزها وطبيعتها الايجازية في عرض الرأي والموقف المصدر الرئيس للأخبار والرأي في دنيا الإعلام المعاصر. هذه السوشيال ميديا توفر نظريا للبشرية هامشا لحرية التعبير يبدو لك ولي واسعا، بينما كثيرا ما ينتابني شعور من ألبسوه قميصا من حديد، يجبرني أن أقول رأيي في أمهات القضايا في كلمة أو رمز أو رسم، هم يرسمونه لي. يحرمني في الوقت نفسه من متعة التفكير في خلعه. يعلم مروج السوشيال ميديا وأنا أعلم أن البدائل المتاحة صعبة وتكلفتها باهظة. السوشيال ميديا كانت شريكا مسؤولا عن انحدار اللغة العربية، وهي الآن شريك مسؤول عن حشر الإنسان في نمط ممارسة مقيدة لحرياته، وأخشى أنها بوصفها درعا من دروع التكنولوجيا الحديثة مثلها مثل إبداعات الذكاء الاصطناعي ستكون شريكا كاملا ومتكاملا في نظام دولي جديد على وشك الإطلاق”.


أحسنتما. اذهبا الآن وابحثا مع الحالمين من أبناء جيلكما، ابحثا عن سبيل لاسترجاع مكانة للغتنا العربية كانت محل توقير واعتبار. تذكروا دائما أنه إذا فقدتم اللغة انفرطت هويتكم.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version