بهاء طاهر: أسعدني »اكتشاف« هذا الكاتب المقل عبر روايته الممتازة »الحب في المنفى« التي يمكن اعتبارها شهادة على مرحلة اكتمال دائرة الهزيمة.. عربياً.
والمنفى مدى مفتوح، يكاد يصير باتساع الكون وأنت مهزوم.
فقد تصبح منفياً وأنت في وطنك، وهذه حال الاكثرية العربية.
والأصعب أن ينفي حاكمك الوطن، وناسه ضمنه، فيختفي كل من عداه، وتحل صورته البهية محل الأرض والشعب والمؤسسات.
أما الأبشع فأن يكون منفاك أرحم بك من وطنك المثقل بالهزيمة وبحاكمه، مثلك.
يقول بهاء طاهر، من دون ان يقول، انه حين يُهزم الوطن فقد تمتد الهزيمة الى مقوّمات حياتك جميعاً: الى قيمك وافكارك ويقينك، الى اسرتك، زوجتك وأبنائك، اضافة الى الاصدقاء والزملاء والخصوم العقائديين.
الكل يضيع بين الزمنين: زمنك الذي لم يكتمل، والزمن الضد الذي ولّده عدم الاكتمال.
وبهاء طاهر أكمل من حول نفسه شرنقة الهزيمة، ثم انطوى كدودة القز داخل جدرانها الصماء، تاركاً لك ان تفترض او تتخيل او تستذكر القانون العلمي الذي سيحوّل الدودة، بعد حين، الى فراشة تقرض الشرنقة وتفتح فيها ثغرة تخرج منها الى النور والتجدد بالولادة قبل الموت.
لقد جمع بإتقان وصبر عجيبين كوارث بحجم الدنيا: من مصر التائهة بعد غياب جمال عبد الناصر والمضيعة تماماً بعد النصر الموؤود في »حرب العبور«، الى شيلي المغتالة بعد سحق الثورة التي قادها الليندي ووصل بها الى الحكم ديموقراطياً، ومن المذابح الاسرائيلية (المموّهة بشعارات »القوات اللبنانية« المتحدرة من صلب حزب الكتائب في صبرا وشاتيلا، والتي وصل بها الاجتياح الاسرائيلي الى ذروة تجلياته الدموية ضد الشعب الفلسطيني واللبنانيين على حد سواء)، الى بعض شيوخ النفط المستعجلين الذهاب الى اسرائيل (عبر اوروبا) بوهم حماية اموالهم السوداء.
في المآسي نبل لا يتوفر دائماً للانتصارات السهلة بحكم الانكسار في ميزان القوى.
و»الحب في المنفى« عقد منذور للمآسي القومية (والأممية) حاول بهاء طاهر مواجهتها وحيداً وفي ظل ظروف شخصية بائسة اخذته الى العزلة المطلقة، فإذا هو مهجور تتخلى عنه حبيبة آخر الايام لتكون الاخيرة في سلسلة هاجريه: من زوجته الى ابنه وابنته ورفاق الزمن الصعب والزملاء الذين اخذتهم انتهازيتهم الى »العهد الجديد«.
ماذا يتبقى لك، ومنك، بعدما يهجرك وينبذك الجميع ويُصادر وطنك؟
حتى المنفى يضيق بك، وعليك.
وبائسة هي الحياة الموزعة بين منفى الداخل ومنفى الخارج: تهرب من احدهما الى الآخر بوهم انه قد يكون ارحم، ثم ترتد الى الاول لأن الثاني أقسى.
لا حل، اذاً، في الخارج.
حتى اللحظات الهانئة، والحب الهابط بالمصادفة، والاوضاع المؤقتة التي أمّنت له حداً أدنى من الاستقرار الوهمي على حافة الهاوية، لم تدم طويلاً، وما كان يمكن ان تدوم لأنها من خارج منطق الاحداث التي يعيش في قلب دوامتها، وغالباً من دون ارادته.
لا تستطيع ان تكون داخل الدائرة.
لا تستطيع ان تكسر الدائرة.
لا تستطيع ان تعيش خارج الدائرة.
لا تستطيع ان تغيّر في الداخل.
لا تستطيع ان تبقى نكرة، خيطان دخان، في الخارج.
الحل اذاً ان تعود.
الحل ان تواجه الاوضاع الغلط جميعاً.
الحل ان تتوقف عن الهرب: كلما صادفتك مشكلة اخذك عجزك بعيداً مستولداً لك مشكلة اخرى، الى ان تغرق في بحر من المشكلات، أنت الذي تجهل السباحة.
… وبهاء طاهر في القاهرة الآن مبتدئاً رحلة المواجهة!
وليس خبراً انه قد وجد لنفسه مكاناً ودوراً.
لقد وُلد من جديد، وبقدر ما ينمو فوق ارضه سيتصاغر المنفى داخل صدره.
إننا نبني منفانا بأيدينا.
وبإرادتنا ان نقيم على انقاضه وطننا الذي تتأخر ولادته كلما هربنا من واقعه الى أحلامنا التي لا يمكن ان تزهر وتثمر إلا في تربته المندّاة بالعرق.
عندما يعبث الهواء
كنتِ تتعابثين. تتقافزين من حول »صنمك« الدافئ، تمدين يداً وهمية الى شعره الوهمي، او تأخذين يده لتسرح في أفياء شعرك. تغمزين له بعينك، تفتحين له ابواباً مسحورة ولا جدار، تنتشين بتصوراتك، ثم تغرفين له من نشوتك، حتى لقد اختنق الهواء بأشيائك.
لم يختصر التشبيب المسافات. اختنق الصوت في دهليز الصمت، وتفتت الصدى أشلاء غاب عنها المعنى.
كان على الشرفة المقابلة حبل غسيل. كان على الحبل رداء منزلي لسيدة البيت. كان الرداء اسود وعلى الكمين زركشة شرقية الطابع.
هب الهواء عفياً، فبدا كأن الثوب يرقص وحيداً.
جاءت نسمة بحرية رطبة، تغلغلت داخل الثوب. اهتز الثوب، تماوج يميناً ويساراً، ثم ارتفع الكمّان الى أعلى مداهما.
لم تدم النشوة الا قليلاً، ثم تهاوى الكمّان كحجرين يسقطان من حالق، وتخشّب الثوب في انتظار نسمة جديدة.
هنا وهناك يعبث الهواء بالأثواب، ممتلئة وفارغة.
قراءة في رسائل نسمة
قرأت في »رسائل نسمة« شعراً جميلاً، لكن »نسمة« الذي يخاف على كلماته من العيون المتطفلة تصرّف وكأنه يخاف على سره الحميم ان يصير مشاعاً وموضع تندّر. وبدا لي انه يخاف من كلماته حين تتكامل مقتربة، من ان تقدم قصة حبه، او بعض فصولها.
قرأت في »رسائل نسمة«:
»ليس لي منك إلا صوتك. بعض صوتك. يصلني من البعيد متقطعاً، محموماً. لكأنك تهمس به من خلف عنقي المحترق بأنفاسك.
»ينسرب الصوت داخل شراييني. يتغلغل في مسامي كالنعاس. احس انني امتلأت به. ينفخ صدري بالزهو. يربت على قلبي حانياً ويسقي فيه ياسمينة. يمتد خدراً في يدي فتعجز عن الارتفاع الى خدي، ويشعل حريقاً في شعري، وأخاف ان اطفئه فيذهب به الدخان.
»صوتك يملأ عليّ الدنيا. يأتيني دويّه المدمدم المكتوم من فوقي، من خلفي، من أمامي، من الجهات جميعاً. لكأنه سكن اصوات الناس جميعاً فصادرها. يطوقني صوتك ويعتصرني ويذروني داخل طياته منتشية باندثاري. يأتيني من النافذة المفتوحة على الفراغ، من الباب المقفل، من المذياع إن تركته ينطق. أسمعه عبر اصوات المغنين حتى لو رفضت اذني كلماتهم الرخيصة. أسافر به اليك. أمخر عباب الليل. اركب شعاعاً متوهجاً وأنا ألملم الذبذبات من الفضاء الواسع وكأنها ترانيم لحن كنسي مهجور.
»أسبغ عليك من صوتك الصفات. أراك رقيقاً الى حد الانكسار. وأقرأ فيه حزنك فيبهجني وينشيني، لأنني أقرأ في الحزن اسمي.
»كيف تستطيع الهمسة منك ان تحملك إليّ كلّك، وأن تفتح لك أبوابي الموصدة منذ دهر؟
»أطلت الغياب. اشتقت لأن استحم بك…«.
وقال لي »نسمة« وهو يتصبب عرقاً:
إنني اتعلم القراءة، الآن. لقد فضح الحب جهلي. أتعرف ان الحب قد يلغي وظيفة الكلام. العين أفصح من القلم، والهمسة أقدر على التعبير من قاموس الكلمات.
حوار الصوت الواحد
لماذا تجتهد في الهرب مني وأنت تعرف أننا متلاصقان ولا فكاك لأيّنا من الآخر؟!
سأتجاوز التمني والرغبة الى الحقيقة: اذا سلمتُ بأن نكون واحداً كنت كمن يغتالك. التوحد أنانية مني وجموح عاطفي اعمى منك. أنت عالم هائل، فيه بعض مني، ولكنه اغنى من أن يُلخص بي.
انت تتخلى عني بحجة الحرص عليّ. إن خرجت منك أنتهِ.
بل تبدئين.. وقد آن زمن البداية، جاء زمن الصعوبة، لا بد من ان تبتعدي قليلاً لتري، ولكي تجدي نفسك، ولكي أراك. كلما أصررت على الاندماج اصابنا النقص، بينما ينتظرك ويناديك احتمال الاكتمال.
ولكنني إنما أرى بعينيك، وأفكر بعقلك..
لك عيناي ولكنك لن تري بهما شيئاً. بعينيك انظري لا بالعيون المستعارة. لأحلامك فكّري واعملي. الأحلام لا تتناسخ ولا تنتقل بالعدوى او بالقربى. أحلامك مثل لون عينيك، لا تكون في وجه غير وجهك.
هكذا هي الحكاية دائماً: تزرعون فينا افكاركم فإذا صارت أحلامنا تنكرتم لها ولنا. تعلموننا ما نعرفه، فإذا حاولنا التجربة صرختم بنا أن ادخلوا عصركم ولا تكونوا نسخاً مكرورة عن الماضي الذاهب الى اندثار.
ولكن عصركم أبهى وأغنى وأعقد. تعبنا حتى تعلمنا جدول الضرب، وأنتم تمشون فوق سطح القمر وتتنزهون في الفضاء وتأتون بالغد الى حجرات نومكم. لم نستطع ان نعطيكم إلا القليل، ولكنكم تملكون أن تفعلوا الكثير. وسعادتنا تتسع بمقدار ما توسعون خطواتكم مبتعدين.. فالبعد هنا تقدمٌ لكلينا وليس افتراقاً. أعظم اللحظات حين تحلّقون بنا، بما تعرفون، الى عوالم لم نجرؤ على استكشافها. كل ما نعرفه حبة خردل في بحور المعرفة المفتوحة أمام القادر منكم. نحن الآن طلاب علم صعب، وأنتم المؤهلون لتصنعوا معارفنا.
إذا ما تصاغرت صغرتني معك. لن اكبر بعيداً عنك.
إذا وقفتِ حيث أنا قزمتِ نفسك. أرجوك ان تتقدمي لأكبر معك، ولا تتركيني أتأمل، جامداً، في عينيك المظللتين بالحزن، خيبتي.
خيبتك، ولكنك طالما اعتبرتني عنوان نجاحك؟!
يومها كنت في ذروة انطلاقك نحو بناء حلمك. كنت اقرأ في تشوقك الى استكمال ذاتك الايام الرائعة من قبل ان تجيء.. أما الآن، وأنت ملوية العنق في اتجاه الماضي، فإن شبحي يجوس عبر حقول تعاستك، برغم مداراتك. في كل لحظة، في كل طرفة عين، اشعر بأنني قد قتلت شمساً.
لا تبتئس، فها هي الشمس لا تزال تسعى لمستقر لها.
لكنك كنت في قلبها، واليوم تهربين منها الى ظلك لتداري نفسك عن نورها. كيف، ومتى، وأين بدأ الخطأ؟! هل غفلت عنك، مشغولاً بنفسي وبالتفاصيل المنهكة، وبالآخرين حتى نما العوسج داخل صدرك فكاد يسدّ عليك الأفق؟!
اهدأ.. لا ينفعني الآن، ولا ينفعك، أن اقاضيك وأن اجازيك على ما فعلته بي.
بل لا بد من المقاضاة لكي نفتح باب الغد، ولا نبقى محبوسين في الأمس. لقد كنت صانع الفرح للناس، فهل كنت سفاحاً مع قلبي؟!
ليس مهماً أين يكمن الخطأ، ان مستقبلي خارج ما تقرره على نفسك من عقوبة، لست عقابك، والمستقبل لا يصنعه الانتقام.
من ألغى نفسه لم يجد الآخر. ومن تقمص الآخر افتقد نفسه وتاه طويلاً يبحث عما لا يمكن ان يجده خارجها.
ولماذا نفترض دائماً ان ما نطلبه موجود خارجنا.
اذاً، فلتبدئي رحلة البحث داخلك.. وإلا فإن عذاب الجرح سيظل يحملك إليّ، وعذوبة الروح ستظل تحملني إليك، فتتداخل الاشجان وتضيع البدايات والنهايات، ويبقى الطريق فارغاً ينتظر خطوات المسافرين الى أحلامهم.
لك عليّ ألاّ أفقد روحي وألا أضيّع حلمي. لكن حزنك يسد عليّ الأفق، افتح لي كوة من الفرح لكي أطير…