طلال سلمان

نبلاء في مشوار حياتي

من هؤلاء النبلاء الفتاة ابنة السبعة عشر عاماً التي التقيتها وأنا في الواحد وعشرين وافترقنا برحيلها وقد بلغت منتصف السبعين. افترقنا وهي أم لثلاث وجدة لباقة من الحفيدات والأحفاد وزوجة للشخص نفسه الذى سألها الزواج قبل أكثر من خمسين سنة ووافقت دون كثير تردد، على ما أذكر.
أيامنا الأولى معا أذكرها بكثير من الشفقة على العروس، أخالها شفقة متأخرة. قضينا منها شهراً نجوب أنحاء لبنان والمشرق ومصر أتعرف على عائلتها المترامية الأطراف في بيروت وجبل لبنان ودمشق وحلب وعائلتي في مواقعها التقليدية مثل باب الشعرية ومرجوش الجواني والمعز والدراسة وفي مواقعها الأحدث في حي الدواوين وجاردن سيتي والعجوزة. وقتها لم تكن الصدمة الثقافية وفجوة الأجيال والتخمة الغذائية تعبيرات شائعة، ولكننا لم نفلت من عواقب التعرض لها خلال زياراتنا إلى أرض الأصول في تلك المرحلة المبكرة من مسيرة حياتنا.
●●●
أيامنا التالية هي أيام رحلتنا الأطول من عاصمة الهند إلى عاصمة الصين، وهي الرحلة التي كلفتنا وزارة الخارجية القيام بها لأستلم عملي بمقره الجديد في بكين. بدأنا الرحلة في نيودلهي لنتوقف ليلة كاملة في مدينة كلكتا عاصمة البنغال. كان يتعين علينا أن نستيقظ بعد الفجر بقليل لنغادر الفندق قبل أن تستأنف المدينة الحركة. خرجنا من بوابة الفندق الفخم لنرى مشهداً ظل عالقا بذاكرتي لسنوات عديدة. رأينا مئات العائلات افترش كل منها نصيباً من الرصيف وتمددت فيه، عائلة بعد الأخرى، وبالترتيب رجل وبعده امرأة ثم أطفال من أعمار متفاوتة. تفصل العائلة عن العائلة الجارة سجادة هالكة مطوية بعناية. المنظر على امتداد الشارع العريض مبهر ودلالاته لا تخفى على عروسين في مهمة دبلوماسية.
●●●
كانت بانجكوك محطتنا التالية. طائرتنا تغادرها بعد الظهر. كما فهمت من رفيقة رحلتي كان يتعين علينا شراء منسوجات لزوم ترتيب بيت في بكين. النصيحة جاءت من أعضاء في سفارة تايلاند في نيودلهي. لم يكن الفندق على مستوى نظيره في كلكتا. سمعت من شريكة فراشي أنها لم تتمكن من النوم بسبب مضايقات سمعية وحسية من بعوض ثقيل الظل والشكل. لم تكن الغرفة مكيفة الهواء ومع ذلك لم يصدر عني ولا عنها ما ينبئ بشكوى أو تبرم. بإزاحة الملاءة اكتشفت العروس أثناء نومي أن ظهري تغطيه سحابة سوداء شكلتها جحافل من بعوض مخيف غرس أنيابه في ظهري فشرب من دمي ما شرب وما زهد عنه تركه بقعا كثيفة فوق الجلد. كانت الليلة التي اكتشفت فيها العروس، أقصد زوجتي، أن هناك من البشر من لا يشعر بعضة الحشرة وزوجها في هذا الشأن مثال.
●●●
قضينا في هونج كونج أياماً نتبضع ملابس نستعد بها للشتاء في بكين قيل لنا إنه قارس وملابس لطفل أعلن عشية سفرنا من الهند عن نيته وعن قرب قدومه. فعلنا ما يفعله عادة الدبلوماسيون المعينون في بكين فسمحنا لترزية هونج كونج الاحتفاظ بمقاييسنا. كانت إقامتنا في هونج كونج بكل المعايير أياما ممتعة. لم أدرك قبل هذه الزيارة أن مدينة ما يمكن أن توجد بهذا الجمال والحركة والغنى والثراء مجتمعين. أحببتها وعشت بعد هذه الزيارة أتطلع للعودة إليها وبالفعل عدنا. جئنا إليها أول مرة عائلة من فردين ونعود إليها بعد عام ونيف قادمين من بكين عائلة من ثلاثة أفراد، أم وأب وطفل لم يتجاوز عمره الستة شهور.
●●●
من هونج كونج ركبنا القطار ومنه إلى قطار آخر أخذنا في رحلة أناشيد وشعارات وطنية تبث لنا من مكبرات صوت. ركب معنا مسؤول تابع لوزارة الخارجية الصينية مكلف بتوعيتنا وبالكاد استطاع أن ينفذ إلى أسماعنا وسط الأناشيد والأغاني الوطنية وضجيج الموسيقى. وصلنا إلى نانجينج، وقد تغير الآن اسمها على السامعين، وصلنا منهكين وفي حاجة ماسة إلى مكان هادئ بعيد عن مكبرات الصوت. أخذونا مع حقائبنا إلى الفندق الكبير المطل على أحد أهم وأشهر أنهار العالم، نهر اللؤلؤ. في هذا النهر تمخر مئات البواخر والصنادل صاعدة في النهر إلى قلب الريف أو هابطة معه نحو المصب. خيل لي أن جميعها بدون استثناء تشترك في إذاعة خطب الرئيس ماو والأناشيد الثورية. كانت غرفتنا في الطابق العاشر. حاولنا النوم ولم ننم. كنت دائم السؤال مشغولاً بحالة رفيقتي في الرحلة. توقعت أن تشكو التعب ولم تفعل. ساورني شك، ولكنه شك من لا يعرف ولا يفهم ولكن يهتم ويتعاطف. هنا في هذا المكان لا أتحدث لغتهم ولا يتحدثون لغتي ومعنا مبعوث الخارجية يصغرني بسنة أو سنتين، تخشى أن تفاتحه في شيء لم يتدرب على التكلم فيه أو لا تنص عليه التعليمات. غداً على كل حال سنكون على متن طائرة متجهين شمالاً نحو بكين، وهذه أيضاً تغير اسمها على السامعين، وهناك نرتاح، أو هكذا رحت أحلم وأنا أنظر إليها واثقا أنها تتلوى ألماً، ولكن في صمت.
●●●
رفعت سماعة الهاتف لأرد على المرافق يطمئن أننا استيقظنا. بعد ساعة أو أكثر قليلاً كنا في الطائرة. وبعد دقائق كنا في الجو. وبعد دقائق أخرى خرج الطيار من كابينة القيادة يحمل سلة بها تفاح أحمر عرفنا بعد شهور أن الصين تستورده من كوريا الشمالية وتوزعه على الفنادق وعلى كبار رجال الحزب وتبيع بعضاً منه في الأسواق المخصصة للأجانب ولا يرتادها المواطنون. راح الطيار يوزع التفاح علينا لكل راكب تفاحة يعود بعدها إلى كابينته ليستعد للهبوط في مطار مدينة مهمة. قضينا في الرحلة ست أو سبع ساعات تتخللها عمليات صعود وهبوط وغداء سريع في أحد المطارات التي هبطنا فيها. تذكرت أن في مصر قطاراً «قشاش» يتوقف في المدن الصغيرة ولكنه أقل تعذيباً لأنه لا يصعد ولا يهبط وكنت أستقله مع شلة الأصحاب بعد منتصف الليل في رحلتنا السنوية إلى الإسكندرية. استقبلنا في مطار بكين أحد الملحقين الإداريين بالسفارة واصطحبنا بإحدى سيارات السفارة إلى فندق في وسط المدينة وقريب من السفارة البريطانية.
●●●
وفي الليلة الرابعة وعند الفجر أيقظتني صرخات ألم أطلقتها شريكة الرحلة ورفيقة الحياة. اتصلت بمكتب الاستقبال مستفسراً عن طبيب فنصحني الشاب المكلف بالسهر على خدمة النزلاء باصطحاب المريضة إلى المستشفى. طلبت منه تحضير سيارة أجرة. عند الباب لم أجد السيارة. وجدت متصدراً باب الخروج رجل عجوز منحني الظهر، فهمت أنه سائق الريكشو، أقرب شيء ممكن إلى التروسيكل. ساعدني السائق، إن صحت تسميته سائقاً، وموظف الاستقبال على حمل المريضة إلى الريكشو، وتربيطها كما تقضي الأصول وانطلق ورحت أجري خلفه. بعد الكشف الدقيق أوصى الطبيب بعقد كونسولتو وحجز المريضة ليومين على الأقل.
●●●
خلال يومنا الأول بالمستشفى زارتنا حرم السفير وعرضت عرضاً نبيلاً، تذكرت الزيارة والعرض عندما زارتنا في الفندق القريب من مطار بومباي بالهند بعد سنة وشهور حرم القنصل العام في أعقاب اصطدام الطائرة التي كانت تقلني ضمن عائلتي الصغيرة من هونج كونج إلى روما بأرض مطار بومباي واشتعال النيران فيها. بهذا الحادث تحققت نبوءة المشعوذ الهندي الذي تنبأ لي بعد أسبوع من وصولي للهند أول مرة أنني سوف أتزوج فيها وأرحل عنها لأعود إليها في ظروف كارثية.
●●●
هكذا بدأنا، رفيف وأنا، المشوار الطويل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version