طلال سلمان

نادي ثقافي عربي مشبوة

في النادي الثقافي العربي، أمس، كاد الناس ينشغلون عن محاضرة زميلنا فارس الحريات في الكويت، رئيس تحرير »القبس«، محمد جاسم الصقر، بخبر صاعق ينذر بخطر داهم على الحريات في لبنان: حرية الاجتماع، وحرية التعبير، وحرية الثقافة.
مفاد الخبر أن ثمة مَن جاء إلى النادي الثقافي العربي، أعرق مؤسسة ثقافية في بيروت وأحد أهم منابر الحوار الفكري وأحد أواخر حصون حرية التعبير في الوطن العربي، ليسأل »ببراءة« عن برنامج المحاضرات وهوية المحاضرين وماذا سيقولون!
وبالتأكيد فإن مَن أُوفد »ليسأل«، تمهيدا لأن يقدم تقريرا إلى ولي أمر الكلام والقيّم على الحريات في لبنان، لا يعرف شيئاً عن النادي الثقافي العربي في بيروت ولا عن دوره التاريخي في التأسيس لحرية التعبير، وفي التمكين للديموقراطية، وفي إبراز الروح الحوارية في الدعوة القومية.
هو لا يعرف، قطعاً، أن هذا النادي الذي وُلد مع الاستقلال كامتداد للعروة الوثقى، قد شكّل، عبر تاريخه الطويل، منارة ثقافية عربية في بيروت أضافت إلى سمعتها كواحة للحرية ألقاً، وكرّست دورها كمنتدى فكري، وزادت من رصيدها كعاصمة عربية لحق القول، وأساساً بالاعتراض، وحق الدفاع عن كرامة الإنسان العربي.
هو لا يعرف قطعاً، ولعل من أوفده أيضاً لا يعرف، أن هذا النادي الضيق المساحة والفقير الأثاث والذي لو لم يكن إيجاره قديما لما وجد مكانا يؤويه هو بعض من روح بيروت بقدر ما هو واحدة من علامات مجدها، وبالتالي فهو أقرب إلى الرمز، وكأي رمز فهو أكبر من أي شخص، لأنه يعطي من معناه ومن دوره ومن رمزيته لمن يقترب منه.
فهو حصيلة جمع النضالات والمناضلين، الأفكار والمفكرين، الكتّاب والكتابات، واختلاف الآراء ومحاوراتها الغنية، التي شهدها أو أدارها أو نظمها ندوات وحلقات نقاش، قبل أن يباشر مهمته الممتازة في تنظيم معرض الكتاب العربي.
إن هذا النادي كان دائما مولد تيارات، ومؤسِّس اتجاهات، وبالتالي أكبر من حزب، حتى إذا ما اعتبر البعض أن أكثر من حزب أو حركة سياسية أو تيار فكري، قد خرج منه أو صدر عنه، وهو كان »فوق السياسة« بالمعنى الضيق والتقليدي للكلمة حتى والأفكار التي تطلق منه وفيه تصنع السياسة والسياسيين داخل لبنان حيناً وخارج لبنان أحياناً.
لماذا »التحري« عن النادي الثقافي العربي وبرنامج محاضراته ومَن سيتحدث فيه وماذا سيُقال؟!
لماذا هذا التحرّش غير المبرّر بالمفكّرين والمثقفين والمنتدين، الذين قد يلتقون على فكرة وقد يختلفون على رأي، ولكنهم في أي حال لم يشكِّلوا في الماضي ولا هم يشكِّلون اليوم أي خطر على الأمن الوطني أو الأمن القومي؟!
أغلب الظن أن »المتحرّشين« والباحثين عما »يدبَّر« في النادي الثقافي العربي قد انطلقوا من فرضية أن هذه المؤسسة الثقافية العريقة لها »صلة ما« بالرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، خصوصاً وقد رعى بعض نشاطاتها (لا سيما معرض الكتاب العربي) خلال وجوده على رأس مجلس الوزراء وبهذه الصفة، … ولعلهم قد استذكروا أيضا أن الوزير السابق فؤاد السنيورة كان ولعله ما زال من أسرة النادي.
لكن رفيق الحريري كان، على امتداد ست سنوات طويلة، مالئ الدنيا وشاغل الناس: في الداخل أكثر من رئيس حكومة، وفي الخارج أقل قليلاً من رئيس دولة…
وهو من موقعه الرسمي، ثم بوهجه الشخصي ومبادراته المتوالية، قد وصل إلى كل الناس وإلى كل الأمكنة، وتعامل معه الجميع بالتأييد أو بالاعتراض، بالمصلحة أو بالطمع، بطلب الحق والإنصاف أو بالتملّق والنفاق كمسؤول أول داخلياً، وكصاحب نفوذ عربي ودولي واسع خارجياً، وأحياناً كمتبرع أو كصاحب ثروة استثنائية ومصالح استثنائية.
فهل كل مَن التقى، ذات يوم، رفيق الحريري يصنّف معادياً للعهد، وبالتالي فهو مُدان ومتواطئ ولا بد من محاسبته على ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!
وما علاقة النادي الثقافي العربي في بيروت بهذا كله؟ وهل »يحاسب« النادي، أو يعامل اليوم وكأنه مشبوه بالولاء لرفيق الحريري؟!
وماذا عن علاقة النادي الثقافي العربي بالرئيس سليم الحص، وهي كانت، لسنوات طويلة جداً (ولعلها لا تزال)، أوثق من علاقة الحريري بالنادي؟!
وهل ستمتد المحاسبة إلى من رئس النادي أو كان عضوا في أسرته، ناهيك بمن حاضر أو ناقش أو شارك في ندوة فيه؟!
هل يطلب إلى التحقيق، غداً، الدكتور قسطنطين زريق، ونديم دمشقية وفؤاد سعد ورامز شحادة (أول رئيس له) ومروان نصر وبرهان دجاني وحسني المجذوب ووليد الخالدي وعصام عاشور وجوزف مغيزل (رئيس النادي بين 1960 و1972) ومحمد قباني، إضافة إلى ليلى شرف وطاهر المصري (من الأردن) وعمر المنتصر (من ليبيا) ونجيب أبو حيدر ومنير حمدان ومئات »المتطوعين« الذين حموا النادي وأمّنوا استمراره في أداء رسالته على امتداد دهر الحرب الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية؟!
لقد عرف جمهور النادي، اثر انتهاء المحاضرة، أمس، أن رئيس المجلس النيابي قد أبلغ رئيس الجمهورية بما حدث، وأن الرئيس العماد لحود قد أبدى استنكاره لهذا التصرف البوليسي… ولعله لهذا السبب قد أعلن (كما نقل عنه زائره) أنه »ضد عسكرة البلد، ويريد أن يكون للعسكر عمله وللحياة السياسية إطارها«.
وهذا كلام مطمئن، ومن الضروري أن نسمعه من الرئيس العماد إميل لحود، ويبقى أن يسمعه »المتحرشون« بمؤسسات عريقة وواضحة القصد والهدف، مثل النادي الثقافي العربي في بيروت، فيكفّ مَن أوفدهم عن إيفادهم، ويبحث لهم عن عمل له جدواه في خدمة أمن النظام والبلاد.
فإن نحن لم نستطع الإضافة إلى الرصيد المعنوي العظيم لهذا البلد الصغير، كمنتدى فكري وكمنارة ثقافية عربية، فلا أقل من أن نمتنع عن تبديده.
ونفترض أن الرئيس سليم الحص ما كان ليقبل بمثل هذا التحرش لو أنه عرف به قبل وقوعه، وأنه لا بد سيرفع صوته بالاعتراض ويأمر بعدم تكراره توكيداً لإيمانه العميق بالحرية ولكرامته كمسؤول وكمثقف وكمساهم ممتاز في النقاش الفكري الدائر بحثاً عن يقين، داخل لبنان وخارجه.
طلال سلمان

Exit mobile version