طلال سلمان

ناجي الفليطي لم ينتحر… قتلتموه

كتب نصري الصايغ:

ناجي الفليطي لم ينتحر. الرواية غلط. ناجي قتلوه. لم يكن الأول ولن يكون الأخير. إن قتلى آخرين من قبل ومن بعد سيحضرون. القتلة، لم يشر أحد إليهم. ناجي لم يكن فقيراً. فقره ليس من صنع يديه. فقره تم تصنيعه من قبل أناس رسموا الطريق إلى حبل المشنقة.

نبكي. نغضب. نثور. ننتفض. نحزن. نتهم. نعرف القتلة، ولكن هؤلاء ما زالوا احياء يرزقون من مص دماء اللبنانيين، حتى القطرة الأخيرة من كرامة الناس الطيبين، الذين هم أخف من نسمة. ناجي، نسمة حارت من اين يكون الطريق إلى ألف ليرة. تباً. ألف ليرة فقط. ألف ليرة كانت فاتحة البحث عن حياة البؤس والتخلي والكرامة… لا، التسوَّل، لا يحفظ الكرامات. ناجي خجل من كونه أباً يعجز عن ألفباء الحياة الكريمة. روى الحياة بعيداً. الفقر لم يعد يُطاق. كفى مذلة. كفى عاراً. فلنترك هذه الدنيا، لمن قطع الارزاق عن ناس كثر. الا يقال: “قطع الازراق كقطع الاعناق”. وقاطعوا الارزاق، عصابة، احتلت السلطة للقيام بغزوات مالية، كالقراصنة المحروسين من زبانية وحثالة الاتباع. حكم لصوصي، كل ما قام به، تجميع الاموال المنهوبة، ورمي الفتات للعامة.

ناجي لم ينتحر. لقد قتل. وقتلته معروفون ومزمنون. لا نلصق الاتهام المبرم بالنظام، بل بمن تولى وتوالى، عبر عقود، سلطة النهب المشرعن زوراً… دلونا على سياسي ماله حلال. جائزة كبيرة من الاحترام، لمن يداه طاهرتان. ابحثوا. لن تجدوا إلا قلة منسية، تتحسر فيها على عمره او على العتمة التي احاطوها به.

لا. لم ينتحر. والمأساة، انه ليس الأول، ولن يكون الأخير. نيال من يتفاءل، ولو قليلا. لبنان على وشك الانهيار. لقد انهار. لم ينهر وحده. دمرته ايادي حكامه وزعاماته والحماة. بات اللبناني، يتسوَّل ماله الحلال، من مصارف أثرت من اموال المودعين وصفقات المصرف المركزي، برعاية وعناية، الطبقة السياسية التي امتهنت لعبة الحرامية، وعلى المكشوف. هؤلاء، أن بصقت عليهم قالوا: “الدنيا عم تشتي”.

والآتي أعظم. كل طبقة الطغاة، تعرف أن اللبنانيين في الهاوية. والهاوية هذه المرة، بلا قعر.. الشعب اللبناني، نصفه على الأقل، قال لهؤلاء، ارحلوا. كان من الافضل اجراء محاكمات علنية شعبية، وفتح ملفاتهم على الملأ، وتعريتهم لتبين عوراتهم الاخلاقية، تمهيداً لاعتقالهم، بعد استرداد الأموال المنهوبة.

تمتعوا أيها اللبنانيون بالكذب. أخس. نطالبهم بمحاربة الفساد. كيف؟ فاسدون ومرتكبون يتولون الاصلاح؟ ناهبون يوكل إليهم استعادة الاموال المنهوبة؟ مخربون وخارجون على القوانين الوضعية والقيم الاخلاقية، يطالبون بإصلاح القضاء، الشريك الدائم، في حفظ الملفات وضمها إلى جوارير النسيان… لبنان في مئة عام لم يسجن فاسداً، والفساد دين الدولة، وكهنة الفساد وعماماته يتناسلون بهدف غسل أيدي المتهمين بما لا يحصى من عمليات النصب… ولم نكتشف سراً. هذا معروف على الملأ، والبعض يتباهى بذلك.

الانتفاضة حتى الآن، انجزت ما تستطيعه، وامامها الكثير بعد. ما زال الوقت يتسع للمستقبل. انما، وقد دخلنا الانهيار، فإن مأساة حقيقية تصيب اللبنانيين في حياتهم اليومية. سيزداد عدد الفقراء كثيراً، ولا امكانية لإغاثة وإطعام الجائعين المعدمين. عشرات الآلاف، او أكثر كثيراً، سيبحثون عن رغيف الخبز وحبة الزيتون، بكثير من المرارة والخجل والجباه المتعبة والمتغضنة. كثيرون سيركبون البحر بزوارق صغيرة، طلباً للهجرة الشرعية اخلاقيا، وان كان لقبها “غير الشرعية”. ستتكاثر الاعتداءات المحقة من أجل حفنة من الدولارات أو الليرات. “السرقات” المشروعة ستنمو، لأن الآخرين ينفقون مما لم تجنهم اياديهم ابداً. عمليات قنص وغصب. سيفلت الملق. سيتحول لبنان ليلا إلى غابة. ستقفل ابواب المعامل والمصانع والمحلات التجارية. لن يبقى منها الا القليل. وطن هذا أم مقبرة؟

سنكون، قريباً، أمام قوافل تُعيد إلى الاذهان، مجاعة الحرب العالمية الأولى. عسى أن لا.

اذاً ما العمل؟

ليس مسموحاً أن تخسر الانتفاضة معاركها. الحكم يراوغ ولا يزال يعيش سياسات ما قبل الحراك. محاصصة، تذاكي، حكومة “كلن يعني كلن”. أي اولئك الذين حلبوا بقرة الدولة حتى الجفاف. وبرهان الجفاف، مصارف تقدم حفنة من الليرات والدولارات، لمن كان مطمئناً إلى أن ما جناه في حياته، سيوفر له شيخوخة مرضية ومريحة… لا، وألف لا. الانهيار حصل، والطغمة تستقوي بطوائفها، وبحراكها المفضوح، للابتزاز فقط. لا أحد من هذه الطغمة مع الحراك او الانتفاضة. كلهم ضدها. كلهم، يعني كلهم. انهم ضد حتى الرمق الاخير. لا تصدقوا احداً منهم… اليس غريباً ومستغرباً ومستهجناً، أن يتعاملوا مع المعتصمين والثائرين، بتجاهل. كأن شيئاً لم يكن، أو أن ما هو قائم في الشارع لا يقدم ولا يؤخر؟

امام الانتفاضة اسئلة عما بعد اليوم. وإذا استمر الانهيار، ستقع على الانتفاضة مسؤولية معالجة العوز والفقر واليأس والهرب. مثل هذا يتطلب الاجابة عن اسئلة: أليس المطلوب زيادة الضغط على هذه الطغمة؟ الم تتنازل هذه الطغمة بالقوة: قطع الطرقات، منع النواب من بلوغ البرلمان، سد المنافذ اليه بالأجساد الحية؟ ماذا غير هذا؟ من حق الانتفاضة أن تبقى سلمية. وسلميتها حتى الآن، أقوى بكثير من عنف السلطة وغزواتها الليلية. لابأس باستعمال القبضات واللكمات.

هذا أقل ما يجب.

ناجي لم يمت انتحاراً. لقد قُتل. علِّقوا صوره كشهيد من شهداء الانتفاضة. لقد بذل ناجي حياته كي لا يُذل أكثر.

حزن كبير وموجع يخلفه فينا، ولكنه، يضعنا في مرتبة رفع القبضات لاستعمالها، وليس لمجرد التلويح بها.

هل هذه دعوة إلى العنف؟

الجواب: ليس هناك من عنف سلبي يوازي الانتحار.

Exit mobile version