أكلة لحوم التاريخ نحن!
في قديم الزمان، كان عرب الجاهلية يصطنعون آلهة من التمر فإذا ما جاعوا أكلوها، ممارسين مع ”الآلهة” لعبة طريفة بين ملامحها: الخلق بالمقلوب!
أما في هذه الأيام فإن عرب عصر النور والتنوير لم يعودوا يجدون ما يقيم أودهم بعدما استبيحت بلادهم وصودرت مواردهم وثرواتهم الظاهرة والكامنة، واحتجزت إرادتهم، تعميماً لخيرات الحريات الاقتصادية واقتصاديات السوق، غيروا ”تاريخهم”، فانقضوا على صفحاته يلتهمونها التهام ذئب حجزته عاصفة ثلجية أسبوعاً أو أكثر في وجره الفارغ والمكتظ بالصقيع!
لم يسلم أحد ولم يسلم حدث ولم يسلم سطر من التاريخ، قديمه وحديثه، من غيلان الجاهلية الجديدة،
ضرب السلاطين طوقاً حول أجداث ”الخالدين”، وفرضوا عليهم الاقامة الجبرية، ثم أطلقوا عليهم أنياب المزورين والمزيفين والمتغربين والمهجنين والخجلين بانتمائهم إلى هذه ”الأمة المقتتلة طوال الدهر”،
ثم جاء ”الأنبياء” الدجالون، ورثة مسيلمة الكذاب، فنصبوا أنفسهم قضاة وديانين، وحكموا على رواد عصر النهضة وكل من عمل ويعمل لغد أفضل بالاعدام ”التهاماً” حتى الاندثار التام.
هتكت أستار الدين بالخرافات والادعاءات المزورة والأحقاد المترسبة في نفوس المرتدين، فوضع أهل البيت في وجه البيت، وبعض الصحابة في وجه بعض المبشرين بالجنة، ووضع ”الحديث” في وجه ”النص”، و”النص” في وجه ”الاجتهاد”، ثم أطلقت إشارة الهجوم فانقض الجائعون إلى لحم التاريخ وصناعه ليلتهموا الكل معاً.
أما في السياسة فقد ألقيت ماء النار على كل الصفحات المشرقة لطمس وجوه المجاهدين والثوار والمصلحين، بدءاً بأبي ذر الغفاري وانتهاء بيحيى عياش.
ولأن الاختصاص هو لغة العصر، ولأن القبائل العربية الحاكمة متعددة الأمزجة وان توحدت في خوفها من المحاسبة الآتية ذات يوم، فإن كل عشيرة لحقت بشيخها إلى مائدة مميزة:
البعض اختار الأدب والثقافة وتشهى لحوم المبدعين من كتاب وشعراء وروائيين وقصاصين وفنانين، فالتهم الشيخ محمد عبده والأفغاني ثم ألحقه بالشيخ سيد درويش وعبده الحامولي، وتحلى بالصادق النيهوم ثم اتبعه بصادق جلال العظم ومعه أم كلثوم، وجعل فاكهته قاسم أمين وطه حسين من غير أن يغفل عن فرج فوده ونصر حامد أبو زيد، و”حجز” للوجبة التالية الدكتورين محمد شحرور وكمال الصليبي ومعهما زكريا أحمد وبيرم التونسي وصلاح جاهين وسعد الله ونوس،
والبعض الآخر اختار مرحلة الثورة العربية الأولى وإرهاصات الحركة القومية، في مواجهة الاحتلال العثماني والاستعمار الغربي، وهكذا نهش لحم رموزها قبل أن ينقض على ثورة 1919 المصرية وثورة العشرين العراقية وثورة 1925 السورية وانتفاضة فلسطين سنة 1936، فلم يبق من ذلك التراث العظيم حتى العظام.
صفحة وراء صفحة رمزاً بعد رمز، قائداً بعد قائد، تنظيماً بعد تنظيم: طحنتهم أنياب الغيلان العصرية التي تعيش على ”ريجيم” محدد، فلا تأكل إلا من التاريخ، نيئاً ومشوياً ومسلوقاً.
الذاكرة الآن بيضاء كالعدم.
يسألك فتى في العشرين من عمره: مَن هو يوسف العظمة؟
وتخاف أن تتوغل معه في الحديث فيلتهم الغيلان الذكرى وهم يسعون إلى ”العظمة”،
أو تسألك تلك الصبية المتفتحة كالفجر عن سعد زغلول، أو عمر المختار، أو ساطع الحصري، أو عبد الكريم الخطابي أو الأمير عبد القادر، فتكاد تنكر معرفتك بهم حتى لا تعرضهم لابادة جديدة.
تنتظر مسلسلاً تلفزيونياً من سجلات المخابرات لتستطيع أن تذكر أبناءك بجمال عبد الناصر،
أو مسلسلاً آخر لتحدثهم عن ”الشهداء” ممن أعدمهم جمال باشا السفاح، خلال الحرب العالمية الأولى، والذين أقيمت باسمهم الساحات والأنصاب في بيروت ودمشق وأنحاء أخرى.
أو تتسلل مع لحن أغنية أخذتها فيروز عن سيد درويش لتروي لهم كيف نفى الإنكليز سعد زغلول وكيف أحرقته اللوعة في الغربة فهتف معاتباً رفاق جهاده ”زوروني كل سنة مرة”، أو كيف حياه جمهوره الممنوع من لفظ اسمه بلحن شعبي صار الآن ”فرصة إضافية” لرقص البطن وهز الخصر هو ”يا بلح زغلولي”،
كيف يتقدم شعب بذاكرة ممسوحة؟!
أو كيف يستوي إنسان ويحقق ذاته بذاكرة ممسوخة؟!
من يأكل لحم تاريخه لن يستحق مكاناً في تاريخ غيره،
ومن يلتهم ذاته كيف له أن يطالب الآخرين بأن يتركوه يتمتع بالسيادة والاستقلال والعنفوان والحرية وسائر حقوق الانسان؟!
هل رأيت فرنسياً يضع في صحنه كبد جان دارك ويتناوله قطعة قطعة كما تفعل قبائل الحكم العربية بعلي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي وصولاً إلى جمال عبد الناصر؟!
هل أسقط الأوروبيون بيتهوفن من ذاكرتهم لأنه لم يضع ألحان الروك أند رول؟! وهل شطب الروس تولستوي من وجدانهم لأنه لم يكتب عن مادونا؟ وهل أكل البريطانيون جثة شكسبير لأنه لم ينشئ مسرحية عن مغامرات الليدي في مثل عظمة مسرحياته الأخرى عن أجداد زوجها الكريم؟!
من أكل لحم تاريخه أباح لحم مستقبله للآخرين،
مَن يستطيع أن يحدد ذاته إذا ما خرج من تاريخه؟!
طبعاً، هذا لا يعني أن ندخل ماضينا لنموت فيه، بل أن نتقدم من داخل تاريخنا إلى غدنا لكي نعيش في عالمنا الحاضر بثقافته ومفاهيمه وقيمه الجديدة.
هل تعرف من أنت؟!
من أين، وإلى أين، وكيف وبأي دليل أيها التائه المعلق على حافة السراب، بينما الكومبيوتر يأخذ الآخرين إلى ما هو أبعد من الحلم؟!
متى نقتحم الحلم، متى نخترق الزمن، متى نعثر على أسمائنا الأصلية؟!