طلال سلمان

موعظة حسنة من مكة لكن حل في بغداد

لعل اللبنانيين بين أكثر العرب (والمسلمين) اهتماماً وترحيباً بأي جهد يبذل لوقف المذبحة المفتوحة في العراق، والتي تحصد من نخبه، علماء وأطباء ومهندسين ورسامين وبحاثة، ومن عامته الساعين إلى رزقهم بعرق الجبين، الكثير الكثير… وحسب التقارير الأميركية الموثقة أكثر من 650 ألفا حتى نهاية الشهر الماضي.
فاللبنانيون الذين يعيشون هاجس تحوّل الخلاف السياسي إلى اشتباك طائفي، بل مذهبي، يتابعون الوقائع العراقية الدامية بما يتجاوز القلق على بلاد الرافدين وأهلها إلى الخوف من تمدد الفتنة في هشيم الواقع الرديء المثقل بعوامل القهر والعجز وافتقاد النصير، والذي يشمل كل جوار العراق من الأقطار العربية وغير العربية… والذي له في لبنان بيئة مؤاتية ، أو يُراد لها أن تكون مؤاتية..
في البدء كان الإشفاق على العراق، كياناً وشعباً، ثم مع لجوء الاحتلال الأميركي إلى اللعب على التركيبة السكانية العراقية المعقدة، ومحاولته استمالة المقهورين بطغيان النظام السابق تحوّل الإشفاق الى خوف… خصوصاً عندما منح الاحتلال الأكراد امتيازات إضافية جعلت منطقتهم دولة لا ينقصها إلا الانتساب للأمم المتحدة، وحاول استمالة الشيعة أو تحييدهم مستغلاً الإذلال الذي عانوه من قبله، واجتهد لتقسيم السنة فصنف بعضهم من أهل النظام، وحاسب بعضا آخر على بعثيته ، مع معرفته بأن الانتساب إلى حزب النظام كان إجبارياً، وارتكب جريمة حلّ الجيش وتشريد مئات الألوف الذين وجدوا أنفسهم بلا دخل وبلا حماية.
وفي ظل الضياع وافتقاد النصير، خصوصاً بين أهلهم العرب، وجد العراقيون أنفسهم متروكين للريح، بلادهم ليست لهم، نفطهم منهوب وهم مجوَّعون، أمنهم مفقود وشبكات القتل بذرائع سياسية أو للنهب أو الخطف للابتزاز تفتك بشبابهم وأطفالهم ونسائهم بالسيارات المفخخة، والعبوات الناسفة.. دولتهم تتفكك و مراجعهم السياسية تتناحر..
ولم تكن الفتنة لتحتاج إلى بيئة أفضل: فالاحتلال يعمل على تفسيخ المجتمع، وبين دول الجوار من يمد يده إلى أحشاء العراق يحرّض بعض شعبه ضد بعضه الآخر لينشغل بنفسه، والفراغ السياسي يغري قادة الطوائف بأن يتقدموا إما بذريعة تعويض الغبن التاريخي أو بحجة حماية الحقوق المكتسبة!
ثم جاء البن لادنيون وانشقت الأرض عن تنظيمات أو عصابات ترفع الشعار المذهبي، بل وتذهب بالسلاح إلى الاشتباك المذهبي، والدم يستسقي الدم، والوقائع التاريخية قابلة للتفسير وإعادة التفسير بما يخدم الفتنة ويزيد نارها تأججاً…
وفي غمرة ذلك ينقسم العراقيون حتى على الاحتلال الأميركي ودوره، وتنقسم دول الجوار فتتعطل لقاءاتها، ويغمر نجيع المقتولين على الهوية أرض السواد، ولا مجير!
مع ذلك فقد تنبّهت قوى شعبية، لم يعمها التعصب عن المحتل، ولم تذهب بعقلها الرغبة في الانتقام للماضي، ورفعت صوتها بضرورة التركيز على الاحتلال ومقاومته كشرط لاستعادة الوحدة واستنقاذ الوطن..
ومؤكد أن اللقاء في رحاب مكة المكرمة مفيد، وهو وإن اتخذ طابعاً شبه ديني إلا أنه في جوهره سياسي، ويمكن اعتباره خطوة على طريق طويل.
لكن الجهد المطلوب يتجاوز الموعظة الحسنة، وتلاقي رجال الدين من المذهبين الكبيرين السني والشيعي والبيان الصادر عنهم أشبه بجرس إنذار يقرع للغافلين والمأخوذين بحمى الفتنة.
على أن الأساس هو تلاقي العراقيين داخل العراق على مستقبل العراق، وبين شروط مثل هذا التلاقي الموقف الموحد من الاحتلال الأميركي ومن صورة الدولة العتيدة التي يريدها العراقيون.
ويفترض بأن نار الفتنة التي تتهدد كل عراقي في الجنوب والوسط والشرق والغرب ستفعل فعلها في تنبيه العراقيين جميعاً إلى أن لا مستقبل لأي منهم، كائناً ما كان دينه أو مذهبه، في ظل الاقتتال الأهلي الذي يشكل أعظم ركيزة، وأعظم مبرر للاحتلال ولتقسيم العراق إلى دويلات تافهة لا مستقبل لها.
والتمني أن يكون اللقاء في مكة خطوة على الطريق نحو بغداد، خصوصاً وقد ثبت أن أي اندفاع نحو مصلحة الطائفة يسقط الوطن ومشروع دولته…
ثم أن الفتنة ستمتد إلى كل الجوار، وستنهار محاولات حصر النار في العراق، خصوصاً وأن الأرض من حوله هشيم.
والحل، بداية وانتهاء في بغداد، وإن كانت مساعدة الجوار جميعاً مطلوبة..
ولكن أين بغداد؟! والجواب: أنه لا بد منها ولو طال السفر.

Exit mobile version