طلال سلمان

موتمر وطني ديموقراطية اباتشي في بحيرة دماء عراقية

صار »المؤتمر الوطني« العراقي من أخبار الأمس، أو بالأحرى من ضحاياه.. وإن كان تشييع جثمانه، ومعه مرفقاته من شعارات »الحكومة ذات السيادة« و»التقدم في اتجاه الديموقراطية« و»توكيد الوحدة الوطنية«، سيتأخر قليلاً ريثما تخلي دبابات الاحتلال الأميركي مقبرة »دار السلام« المجاورة لضريح الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف.
صارت أخبار العراق مثل أخبار فلسطين: أرقاماً فحسب! أعداد الشهداء، وأعداد الجرحى، أعداد البيوت المهدمة، وأحياناً على رؤوس أصحابها، أعداد الأشجار المقطوعة حتى لا تحجب الرؤية عن مصوبي مدفعية القتل الجماعي… وفي حاشية منفصلة يمكن إيراد أعداد أخرى مثل الأحلام الموءودة بالسلام والاستقلال الوطني والدولة ذات السيادة.
لقد حقق أياد علاوي نجاحاً جديداً: استولد »المؤتمر الوطني« جهيضاً، ثم وأده لحظة انعقاده. لكأنما أراد منه الصورة فقط ليغطي بها الجريمة الوحشية الجديدة التي امتد مسرحها الدموي من أطراف الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً بالوسط، وإن كانت ذروتها قد بقيت في النجف.
لكأنما أصرّ على عقده، بتحريض أميركي مكشوف، ليحمله دماء الشهداء الذين سقطوا من قبل انعقاده، والذين سقطوا، بل أسقطوا خلال انعقاده، والذين سيسقطون في أيام السواد في العراق تحت الاحتلال.
إن طوفان الدماء أقوى زخماً من أن توقفه كذبة الديموقراطية بالاحتلال. وطابور الشهداء الذين يتزايدون على مدار الساعة يشهدون على قتلتهم ويكادون يسمونهم. والقناع العلاوي يفضح حقيقة من يرتديه أكثر ممّا يموّه صورة من يُراد إخفاؤه.
والحقيقة أن أحداً لم يكن يعلق آمالاً عريضة على هذا المؤتمر العشوائي الذي قرّره الاحتلال وسوّقه باعتباره خطوة نحو تمكين العراقيين من أن يلموا شملهم المشتت بين المنافي والمناطق المستقطعة من وطنهم ومكامن الاختفاء خوف الإبادة، ويستعيدوا وحدتهم الممزقة بالطغيان »الوطني« ثم بوريثه الاحتلال الأميركي.
لقد نظر الناس إلى هذا المؤتمر على أنه خدعة، مجرد خدعة حسنة الإخراج، لتمويه حقيقة الوضع القائم، فلا هو منتخب، ولا هو ذو صلاحية فعلية، ولا هو عملياً إلا قناع إضافي للقناع العلاوي، وهو في مفهوم تجسيد السيادة أو الشرعية أو التشريع لا في العير ولا في النفير. إنه مصدر مزوّر لشرعية غير شرعية يغطي بصورته سلطة لا تملك من السلطة غير الأمر بالقتل، نيابة عن المحتل ولحسابه. إنه مجرد قناع إضافي لخدعة نقل السيادة من المحتل الأميركي إلى عملائه »الوطنيين« والمستفيدين بنعمة وجوده الذي جاء بهم من المنافي المترفة إلى جنة السلطة الموعودة، من دون المرور بمحنة الانتخابات والاحتكام إلى الإرادة الشعبية.
ويمكن تهنئة أياد علاوي على إنجاز تاريخي حققه بكفاءه عالية: لقد حمّل نفسه من دماء العراقيين، كل العراقيين في مختلف أنحاء أرض السواد، أكثر ممّا يحمّل الاحتلال الأميركي ذاته!
بل لكأنه يخوض مباراة مفتوحة مع الاحتلال عنوانها: من يؤذي العراق أكثر في وحدته، أرضاً وشعباً، وفي طموحه إلى التحرر من الاحتلال الأميركي، وفي إعادة بناء دولته في ظل حكم سوي.
بل لكأن أياد علاوي يخوض المباراة مع »سلفه الصالح« صدام حسين، ويريد أن »ينجز« في شهور ما أنجزه »مورثه« في عقود!!
لكأنما تمّ تقسيم دقيق للعمل: القتل الجماعي من اختصاص الاحتلال الأميركي، أما قتل فكرة الوطن الواحد بشعبه الواحد ودولته الواحدة فقد أخذها أياد علاوي على عاتقه.
* * *
لقد تحوّل »المؤتمر الوطني« إلى مذبحة وطنية، وأغرقت »ديموقراطية الأباتشي« المؤتمر ومنظمه في بحر من الدماء العراقية.
كذلك فلقد حقق أياد علاوي إنجازاً إضافياً إذ جعل »الجيش العراقي« المستولد حديثاً يدشن عهده الميمون بدماء أشقائه المتوافدين إلى النجف لحماية العتبات المقدسة، ومعها روح المقاومة، من مختلف أنحاء العراق.
على أن الاحتلال ليس بحاجة إلى كل هذه الأقنعة، بل هو حريص على أن يؤكد في كل لحظة أنه صاحب الأمر، مصدره ومرجعه.. وهكذا فقد أعلن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، وبينما مبعوث علاوي يفاوض المقاومين في النجف، أن »مقتدى الصدر خارج على القانون«… وهكذا قطع المبعوث مفاوضاته التي كانت على وشك أن تختتم باتفاق أو بهدنة على الأقل، وعاد تاركاً المنطقة المقدسة نهباً لمدفعية الدبابات والحوامات والطائرات الحربية الأميركية!
وبهذا »التصرف الحكيم« أعاد رامسفيلد الأمور إلى نصابها، فكشف علاوي وأرجعه إلى حجمه الطبيعي كمجرد أداة، في حين أتاح للسيد مقتدى الصدر وحركته أن تتبدى في صورتها الأصلية كقوة وطنية مقاومة للاحتلال تتكامل مع الطلائع الأخرى في الفلوجة وسامراء والسماوة وبغداد ذاتها، مميزة ذاتها عن عصابات الخطف للابتزاز والقتل التلفزيوني لاستعداء العالم
على كل مناضل ومقاوم ومجاهد من أجل تحرير أرضه واستعادة الحرية في وطنه المحتل!
لقد أكد رامسفيلد، من موقع مسؤوليته المباشرة، تلك التخرصات التي أدلى بها في بيروت، بعض أعضاء وفد الكونغرس الأميركي الملتزم بأصول الضيافة، والتي جاء فيها أن »على العالم العربي أن يتغيّر«، وأن »أسباب الإرهاب لا تعالج بحل القضية الفلسطينية، بل إن المشكلة تكمن في الدين الإسلامي الذي يفرض قيوداً على المرأة تؤدي إلى إلغاء نصف المجتمع، إضافة إلى فرضه أنواعاً أخرى من القيود على النصف الآخر من المجتمع«.
وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن الديموقراطية نبتة أميركية لا تعيش في الأرض العربية (والإسلامية بالاستطراد) إلا وسط بحيرة من دماء أهلها… والمعادلة واضحة: تكون الديموقراطية فلا تكون الأوطان والأديان، والعكس بالعكس!
وبديهي أن رامسفيلد يستطيع أن يأمر فيطاع، وأن أعضاء الكونغرس الأميركي يستطيعون، وهم يستطلعون »ممتلكاتهم« الجديدة في ما وراء البحار، أن يوجهوا الإدانات قاطعة إلى شعوب هذه الأرض العربية، طالما أنهم لا يجدون من يصدهم فيرد عليهم بمثل ما تستوجب هذه الإهانات الشاملة والخارجة على كل الأعراف والأصول والحقائق…

Exit mobile version