طلال سلمان

موتمر عمان اقتصاد دموي

فضح الدم اللافتة الخادعة، فانكشفت الطبيعة السياسية للمؤتمر الذي تعقده عمان الهاشمية لحساب إسرائيل بطلب أميركي صريح ومعلن.
وحين دخل إسحق رابين قاعة المؤتمر على حصانه الأبيض، دار على المؤتمرين برأس فتحي الشقاقي مرفوعù فوق رمحه، ثم أقامه على منصة الرئاسة الملكية، جنبù إلى جنب رأس »القدس الشريف« المحمول بطائرة خاصة من واشنطن،
بات ممكنù، بعد توضيح الخيار بحد السيف، أن يبدأ حديث التنمية والرفاه الاقتصادي والمستقبل الواعد للشرق الأوسط الجديد!
فكما لم يقاطع أحد من المستدعين إلى المؤتمر، احتجاجù على اغتيال القدس قبل أسبوع واحد، لم يتوقف ذلك الحشد المتنافر المصالح والأغراض لحظة أمام واقعة اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي ولم يستوضح أحد كيف ومتى وأين ومَن، ولو من باب الفضول، حتى لا يُتهم بالتعاطف مع »الارهابيين«.
كل ما فعلته المراسم الملكية أنها غطت بركة الدم بالسجادة الحمراء المفروشة ترحيبù بمقدم أصحاب الحقائق المنتفخة بمشروعات دنيا الأحلام التي ستجيء حتمù كخاتمة للصراع الدموي الطويل والعبثي!!
ولهواة التاريخ وحدهم أن يتساءلوا عن سر هذه المعجزة: بناء مصانع السلام وقلاع النهوض الاقتصادي الشامل فوق ركام من الآمال والحقوق والمطامح والدماء التي طالما سقت هذه الأرض وروتها وأعطتها اسمها ولون التربة والهوية!
هل بين التاريخ والاقتصاد كل هذه الغربة؟!
وهل ثمن الرغيف الأرض؟ ومن أين يأتي الرغيف إذا ما سلَّم أصحاب الأرض بأن أرضهم ليست لهم، بأن قدسهم ليست لهم، بأن دمهم ليس لهم؟!
وماذا يتبقى من فلسطين إذا اقتطع منها القدس ودم الشهيد؟!
والعزاء في فتحي الشقاقي، المجاهد في زمن الهرولة، أنه قد استُشهد في يوم القدس ومعها، وأن قاتلها هو قاتله، وأن المؤتمرين شركاء في الجريمة التي يستحيل »تسويقها«، أو توظيفها كرصيد لبنك التنمية الذي لا يجد مَن يدفع رأس ماله وإن وجد آلاف طلبات الاستدانة، بينما مقره معلق مثل مهمته.
* * *
مبكّر الحديث »السياسي« في النتائج العملية لمؤتمر عمان »الاقتصادي«، لذا يمكن الاكتفاء الآن ببعض الملاحظات الأولية في انتظار المقررات »الذهبية«.
} أولى هذه الملاحظات تتصل بالإصرار الأوروبي على التنصل من تبعات هذا التوجه، وإصرار الأوروبيين على المضي في نهجهم المستقل. هم ليسوا ضد »السلام الإسرائيلي« تحت الرعاية الأميركية، لكنهم يرفضون أن يدخلوا المنطقة العربية بتأشيرة إسرائيلية.
ومؤتمر برشلونة، بهذا المعنى، هو البديل الأوروبي، في السياسة أساسù ومن ثم في الاقتصاد وعلاقات التعاون مع المنطقة كلها التي لا تختزلها إسرائيل لا الآن ولا في المستقبل خصوصù.
} إن المملكة العربية السعودية، ومعها معظم أقطار الخليج، قد أعلنت صراحة ما كانت تقوله مواربة وبالإيماء: انها لن تشارك في بنك التنمية، وان »التنمية« التي يمنّي بها المؤتمر العرب ليست اكتشافù إسرائيليù أو حتى أميركيù، بل هي سياسة قائمة في المنطقة (ولو متعثرة)، والمملكة ذاتها أنفقت سبعين مليار دولار على مشاريع تنموية عربية (داخل السعودية وخارجها) كما قال وزير التجارة السعودي.
} ان بعض المشاركين من المسؤولين العرب تطاردهم عقدة الذنب، فيحاولون تبريرها إما بفقرهم المدقع واعتبار المؤتمر فرصة للتحرش »بأشقائهم« الأغنياء بناءً لنصيحة أميركية، مع وعد بدعم إسرائيل لا يرده أحد (كما حالة الرئيسين اليمني والموريتاني)، وإما بالانتقال إلى الهجوم الوقائي كما فعل »القطري الفصيح« الشيخ حمد بن جاسم، وزير الخارجية، حين برّر »هرولته« إلى السلام بسابقيه من »المهرولين« وبهزيمة مَن حاول مقاومة المشروع الإسرائيلي، وكأنما الاستسلام لإسرائيل وبشروطها هو الحل الأكيد!
} ان »المهرولين«، خلافù لرأي ذلك »القطري الفصيح«، درجات وأنواع وأصناف؛ وهم ليسوا »كتلة متماسكة«، خصوصù أن لكل منهم تاريخه في »الحرب«، وبعضه يطلب بقدر ما أعطى… ويتصدع المؤتمر المحمي بعناية، وتتهاوى مشروعات الأحلام، كما حدث من قبل في الدار البيضاء، وإن ظل ممنوعù سقوط الفكرة والإصرار على غرس »العادة« بأمل أن تثمر في المستقبل، وبعد القضاء على »الإرهاب« و»الارهابيين«.
من هنا، وبمعايير سياسية صرفة، تحوّل الحضور المصري في مؤتمر عمان الاقتصادي من »عبء« على حلف الممانعة السوري المصري السعودي لإبطاء مسار التطبيع مع إسرائيل.
.. تحول هذا الحضور إلى مكسب لمشروع التحالف الثلاثي الذي ظهرت معالمه علنù في قمة الاسكندرية أوائل العام الجاري، وهي القمة التي ضمت الملك فهد والرئيسين حافظ الأسد وحسني مبارك، وقمع الأميركيون نتائجها بسرعة قياسية فورù.
فكلام وزير الخارجية عمرو موسى عن »الهرولة« إلى التطبيع وتحذيره منها، رد عليه الملك حسين مباشرة، الأمر الذي أكد طبيعة المؤتمر، أنه مؤتمر سياسي وسياسي جدù جدù، وفرض بالتالي على الملك الأردني سجالاً حول سياسته على أرض مملكته.
هذا »التسييس« لمؤتمر عمان المطالب بأن يشكل المنعطف السياسي الأهم في تاريخ المنطقة الحديث أضاء على معطيين أساسيين:
1 الأول أن الخلافات العربية العربية حول مستقبل العلاقات مع إسرائيل هي خلافات أساسية وتضم »المعارضة« فيها أطرافù رئيسيين في العالم العربي، على اختلاف الاعتبارات والتوجهات والحساسيات لدى هذه الأطراف: بين الرفض السوري المنهجي ل»التطبيع« والقلق المصري على موقع مصر في الشبكة الاقتصادية السياسية التي ترسمها الولايات المتحدة ومحورها إسرائيل لمستقبل المنطقة و»التحفظ« السعودي على تمويل سلام ناقص، ناهيك عن القدرة نفسها على »التمويل« وفق ما يريده الاسرائيليون والأميركيون.
على هذا المستوى الأول تظهر بقايا »النبض« العربي حيال كل مسار الفرض الأميركي الساري على أطراف لا تستطيع أن تخرج من التسوية، ولكنها لا تستطيع أن تقبل بنتائجها، خصوصù أن »أسبوع القدس« المنصرم جعل »السلام« يبدو للعرب أقرب الى الابتزاز منه إلى مشروع علاقات حد أدنى متوازنة. ان »ماء وجه« العرب الذي أريق في الكونغرس الأميركي الأسبوع المنصرم، جعل حتى »مهرولاً« بارزù كياسر عرفات يركّز كلمته الافتتاحية على الشق الخلافي الكبير مع إسرائيل، المتعلق بمصير القدس.. ولو من باب الاستقواء »الشعبي« بالتحفظ المتلفز.
2 المعطى الثاني ل»تسييس« مؤتمر عمان (السياسي جدù أصلاً) هو أثر التمحورات والصراعات العربية العربية على »هجوم السلام الأميركي« على المحور الفلسطيني الأردني الإسرائيلي.
فهذا المحور، عدا تناقضاته الكبيرة، وخصوصù الفلسطينية الأردنية، يثير حسابات حادة في أكثر من اتجاه، بعضها يبدو وكأن هواجس الدور الأردني قد حركت كل المخاوف العريقة الموروثة على خارطة التجزئة العربية، وبعضها، كالهاشمي السعودي، يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
بهذا المعنى، وتبعù ل»النقاش« الذي دار بين عمرو موسى وزير الخارجية المصري والملك حسين، تبدو جبهة »التطبيع« منشقة على نفسها انشقاقù عميقù، فليست طبيعة »السلام« التي يريد السوريون دائمù هي المطروحة للنقاش في عمان، بل طبيعة »التطبيع« نفسه بين التصورين الأردني والإسرائيلي، حتى لو تضمن رد الملك حسين على عمرو موسى أن مصر هي التي »هرولت« قبل 17 عامù من الهرولة الأردنية!
وسيظل النقاش مدموغù بلوثة الدم، مهما »تلاطف« المؤتمرون.
فرأس القدس على المنصة، ومعها رأس فتحي الشقاقي يرسم إطار المهمة الحقيقية للمؤتمر ورعاته والدعاة.

Exit mobile version