طلال سلمان

موتمر بيروت ومترنيخ دوحة

من بيروت تحديدا، واليوم، وفي ضوء المناقشات المهمة التي تدور في أفياء »المؤتمر السابع للمستثمرين العرب« المنعقد فيها الآن، وبمشاركة ملحوظة في كثافتها، تتبدى مرة اخرى اهمية الوعي بالوظيفة السياسية الممتازة للاقتصاد في تعزيز القدرة العربية على بناء مستقبل أفضل للعرب مجتمعين، كما لكل قطر على حدة.
لن تبني لنا »الدول« بلادنا، ولن يبنيها ايضا المستثمرون الاجانب.
ذلك لم يحدث في اي مكان من الدنيا، وهو لن يحدث قط.
فالدول، لا سيما العظمى أو القادرة بثرواتها او بتقدمها العلمي، ليست جمعيات خيرية، والاستثمارات لا تأتي بدافع من »الصداقة« او الرغبة في التخفيف من آلام البشرية، و»الام تيريزا« مجرد امرأة طيبة قد رحلت عن عالمنا بغير ان تبدل فيه، ولن تعود..
وما لم يتعاون العرب في ما بينهم، وما لم يعوا أهمية تضامنهم، وما لم يسلكوا، أخيرا، طريق المصالح المشتركة، توكيدا للروابط القومية وتعزيزا لها، وانطلاقا بالأصل من مردودها الاقتصادي الممتاز، فسيظلون اضعف سياسيا من ان يحموا »استقلالاتهم« فكيف »بسلام« أهون منه الحرب مع عدو متقدم ومتفوق مثل اسرائيل.
الكلام كثير لكن الخطوات العملية قليلة،
والاموال العربية تذهب الى البعيد، ولا تؤدي دورها الذي لا يعوض في بلادها متمثلة بما قدمته اموال الفرنسيين لفرنسا، واموال البريطانيين لبريطانيا واموال الاميركيين للولايات المتحدة الاميركية، ودائما من موقع المستثمر ولكن مع قدر من الوطنية ومن الاعتزاز بالانتماء القومي ومن الاحساس بالواجب تجاه الارض التي اعطته والاهل الذين وفروا له الفرصة لان يأخذ منهم الكثير فرد لهم الجميل ولو بالقليل مما اعطوه.
وبدلا من التقدم خطوة جدية على طريق السوق العربية المشتركة او اي قدر من التكامل العربي، وبما يحقق النفع للجميع، دولا ومؤسسات خاصة وافرادا، نشهد من يهرب من امته بأمواله التي جناها منها ليقدمها لخصومها او لكارهي تقدمها، وأحيانا لعدوها الاسرائيلي مباشرة.
وإذا ما اسقطنا من الحساب الحركة الخرقاء وغير المبررة للسفير القطري في بيروت عند افتتاح المؤتمر، والتي لا يخفف من آثارها قرار »وزيره« التأديبي، فإن مسلك قطر يمكن اعتباره نموذجا للسياسة الخطأ، والتي تؤذي صاحبها بقدر ما تؤذي اخوانه، ولا تنفع إلا العدو.
لقد ولد عند العرب داهية جديد، في السياسات الكونية، يرى في نفسه خليفة لكل من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وكليمان فروست فون مترنيخ في آن!
اذ تبدو قطر، ومن خلال سياستها الخارجية التي يتولى قيادتها »مترنيخ الدوحة« الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، وكأنها تتولى بالتطوع على الارجح او ربما بالتكليف اكمال ما قصرت عنه »حرب الخليج« الثانية، او بتحديد أدق ما قصّر عن انجازه صدام حسين عبر غزوته الميمونة للكويت في صيف 1990.
فلقد انتهت، او اوقفت، تلك الحرب بعودة القوات الاجنبية التي كانت بالكاد قد خرجت او اخرجت بوصفها قوات احتلال، الى هذه المنطقة العربية الغنية بمواردها الطبيعية، الضئيل عدد سكانها، الضعيفة والمستضعفة والتي يمكن استغلال خوفها الغريزي على ثرواتها الهائلة الى »سياسة ثابتة« عنوانها اللجوء الى الاقوى، القادر على حمايتها، ولو بثمن باهظ لا تدفعه من ارصدتها النفطية والمالية فحسب، بل أيضا من مقومات وجودها (ككيانات) وشروط استقلالها وسيادتها، وعلى حساب المصالح العليا لامتها العربية وامنها القومي.
وفي حين سعت وما تزال تسعى بعض اقطار الجزيرة والخليج، والسعودية بالذات، لاعلان نهاية نهائية لحرب الخليج، ومحاولة استعادة التوازن الذي اسقطه »الخطر العراقي« جزئيا، والاضطرار لطلب الحماية الاجنبية كليا، فإن »مترنيخ الدوحة« قد اندفع في الاتجاه المعاكس تماما مجاهرا بضرورة التعويض على اسرائيل التي لم تنل نصيبها المعادل لقوتها من الثمار الشهية لحرب الخليج!
هل من الضروري التذكير بأن الولايات المتحدة الاميركية قدمت »المفاوضات المتعددة الاطراف«، ومنذ مباشرة مؤتمر مدريد أعماله، وكأنها »رشوة اقتصادية« تقدم لاسرائيل مقابل »انخراطها« في العملية السلمية،
وهل من الضروري التذكير أيضا بأن طرفين عربيين اساسيين من المحتلة ارضهم والمنخرطين اضطرارا في العملية السلمية، هما سوريا ولبنان، قد رفضا هذا المنطق ومنذ البداية ولسبب جوهري: ان »المكافأة، ان كان لا بد منها، تقدم بعد انجاز المهمة، لا قبل، وإلا فقدت قدرتها على التأثير؟«.
في عرف »مترنيخ الدوحة« فإن الالتزام الدولي يجبّ الالتزام القومي ويلغيه،
ومع ان دول مجلس التعاون الخليجي، وبعد اربعين اجتماعا لوزراء المالية فيها، لم تتمكن حتى اليوم من انجاز »معاهدة« توحيد الرسوم الجمركية في ما بينها، فإن »مترنيخ الدوحة« يعتبر انه قادر على احداث انقلاب في اسرائيل، وانجاز العملية السلمية (التي فشلت في انجازها واشنطن) وتحرير الاراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس، فقط باستخدام دهائه وقدرته الفذة على الاقناع!
من بيروت إلى الدوحة: لكم غدت الطريق طويلة وشاقة، يحس من يقطعها كأنما يخوض في دمه!
وهل يمكن ان يقبل احد ان يكون دمه هو موضوع الاستثمار او الاغراء بالاستثمار؟! وهل نقدم دماءنا مع اموالنا للاسرائيلي لعله يتكرم فيتركنا نعيش عبيدا لاحتلاله، في ارضنا المنكوبة علينا؟!
»مترنيخ الدوحة« يطلب منا هذا،
ولسنا نظن انه سيجد بين المستثمرين العرب من سيغامر بماله، وربما بروحه، من أجل هكذا تجارة محكومة بالخسران، كما دلت المؤتمرات السابقة على مؤتمر »مترنيخ الدوحة«.

Exit mobile version