طلال سلمان

موتمر بعث تغيير بحذر و»تحدي لبنان« مضمر وغير مطروح

وقف أكثر من ألف رجل وبضع عشرات من النساء في القاعة الأنيقة بقصر الأمويين في ظاهر دمشق، إعلانا بافتتاح المؤتمر التاسع لحزبهم. كان الجو يجلله الحزن لافتقاد »الرئيس القائد« و»الرفيق الأمين العام« لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يتولى السلطة في سوريا منذ سبع وثلاثين سنة بغير انقطاع. لم تسقط من الذاكرة بعدُ، تلك الأزمات الدموية والصراعات الطاحنة وفترات التيه العقائدي، داخل الحزب كما داخل مواقع السلطة، قبل أن ينجح حافظ الأسد في »تصحيح« المسيرة، وإعادة توحيد الحزب، ثم في رعاية ذلك كله حتى رحيله المفاجئ والمدوي في العاشر من حزيران، وقبل أسبوع واحد من افتتاح أعمال المؤتمر المراجعة.
غابت الاحتفالية عن جلسة الافتتاح وإن لم تغب التقاليد الحزبية: وقف الجميع ليؤدوا نشيد الحزب، بغير موسيقى وبغير تصفيق.. وبأصوات مرتبكة لم تستعد حماستها إلا قرب النهاية.
كان واضحاً أن بعضهم »فقد العادة«، أو أن التأثر جعله يتعثر في محاولته استعادة كلمات النشيد التي كانت تعكس طموحات قومية عريضة، وكانت تدغدغ مشاعر جيل الحالمين والمستعدين فعلاً للنضال حتى الرمق الأخير من أجل »الوحدة والحرية والاشتراكية« في »أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة«.
وكان واضحا أكثر أن العيون والأفكار والمشاعر تتركز على شخصية الدكتور بشار الأسد، الجالس في الصف الأول الآن، بثيابه المدنية، مع أن القيادة الحزبية كانت قد رفعته إلى رتبة »فريق«، في اليوم التالي لوفاة الرئيس القائد وعيّنته »القائد العام للجيش والقوات المسلحة«، والذي سيرتفع غداً، وبقرار من القيادة الحزبية الجديدة، إلى حيث كان يقف والده على رأس قيادة الحزب ومن ثم الدولة..
على أن العسكريين، من أعضاء المؤتمر، جاؤوا هم أيضا بثيابهم المدنية: المكان هنا للحزب، وللعسكريين بصفتهم الحزبية وليس بمواقعهم في الجيش والأجهزة الأمنية.
مات القائد، عاش القائد… وهكذا تجاوزت الرغبة في تأكيد الاستمرارية بمبايعة بشار الأسد الأحزان على الرئيس العظيم الذي غاب، وكان واضحا أن الجميع يريدون الاندفاع إلى الأمام، تلبية لما كانوا يعرفون من توقعات أو تمنيات القائد الراحل من هذا المؤتمر الذي أُرجئ أكثر مما يجب، والذي لا بد من أن يواجه أخيرا المهمات الثقيلة التي تفرض نفسها على سوريا، وعليه وهو في القيادة، على المستويات كافة: الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية.
بل لعل غياب حافظ الأسد الذي جمع في شخصيته صفات ندر أن اجتمعت في رجل، قد زاد من أهمية هذا المؤتمر وخطورة دوره في مواجهة التحولات، دولياً وعربياً وداخلياً، وإعادة بلورة خطط عملية تستشرف المستقبل أكثر مما تستقرئ الماضي كما فعلت التقارير المقدمة إلى المؤتمر، ربما لتطلق النقاش وتوسع إطاره، لإعادة صياغة البرنامج الجديد الذي يستجيب للحاجات الملحة قبل التطلعات والآمال المنشودة.
الكل يعرف أن حافظ الأسد كان يدرك أن الحزب، وبالتالي سائر المؤسسات، بحاجة إلى »ثورة من الداخل« تنتشله من جموده، وتجدد شبابه وتؤهله لأن يتصدى لمهمة عظيمة كاستكمال بناء سوريا قوية وحديثة على الأرض وليس بالشعارات فقط، وبالإصلاح الجذري للمؤسسات كافة وليس بمجرد الحديث عن ضرورة محاربة الفساد، وبعصرنة اقتصادها وفتح أبوابه المغلقة بحذر وبتخطيط أمام رياح المفاهيم والنظم الجديدة التي تجتاح العالم، شرقاً وغرباً.
والكل يعرف أن الدكتور بشار الأسد يقود تيار التحديث هذا، من داخل بيت الرئاسة، وأنه قد جمع من حوله العديد من الكادرات الشابة والطامحة لأن تسهم في التغيير بغير أن تعترضها أو تقمعها وتثبط هممها التقاليد العتيقة والروتين القاتل والتراتبية المعطِّلة والتي يخشى أصحابها على أنفسهم من خسارة مواقعهم والامتيازات، وإن كانوا يعرفون أنهم لا يعرفون كيف يكون التقدم، بل وربما ان معظمهم لا يرى ضرورة للتجدد أو التقدم!
هل ينجح المؤتمر في إنجاز هذه المهمة شبه المستحيلة؟!
المؤكد أن التغيير على مستوى القمة لن يكون صاعقاً… فإذا كانت الانتخابات الحزبية على المستويات الدنيا لم تنجح في »تجديد« أكثر من ربع المؤتمرين، فإنها على المستوى الأعلى لن تحدث »انقلابا«، وسيعتمد على الأرجح أسلوب »التجديد بالإضافة لا بالحذف«، فإذا افترضنا أن نسبة الثلث من أعضاء القيادة القطرية ستكون من الوجوه الجديدة، يصبح بالإمكان التقدير أن الأمين العام الجديد، وهو الرئيس العتيد، سيتمكن من أن يُدخل تعديلات أساسية على برنامج عمل الحزب ومن ثم الدولة في عهده الذي سيبدأ (رسمياً) بعد شهر تقريبا… ولعل بعض ملامحه ستتبدى في التعديل الذي سيجرى (وفقا للتقديرات) على الحكومة بحيث تزيد نسبة أصحاب الأفكار والخطط الجديدة على نسبة القدامى والموروثين من فترة الجمود أو التجميد بقرار، نتيجة الانشغال بأعباء المواجهة المفتوحة مع العدو الإسرائيلي، بالمفاوضات الصعبة كما بالصمود المكلف معززا بالمقاومة الباسلة في لبنان.
أين لبنان، في البرنامج الجديد للحزب، واستطرادا في برنامج الرئيس العتيد؟!
على السطح، وفي التصريحات الرسمية، كما في الوثائق المقدمة للمؤتمر، يؤتى على ذكر لبنان بشكل عارض، وإجمالاً عند تحديد المواقف المبدئية أو السياسية العامة: المقاومة، الصمود، »العملية السلمية«، وحدة الموقف (مسارا أو مصيرا).
أما في واقع الأمر فلبنان يحتل مساحة أوسع بكثير في عقل القيادة السورية (الجديدة كما القديمة)، وإن كانت طبيعة الاهتمام مختلفة الآن: فلبنان لم يعد مصدر خطر على النظام، ولكنه ما زال يشكل شيئا من التحدي، لا سيما على المستويات الاقتصادية والثقافية والعلمية.
لا الوحدة مطروحة ولا الاتحاد، بطبيعة الحال، ولا المعاهدات والمواثيق الكثيرة التي تهاطلت عليها التواقيع، في مهرجانات احتفالية تتراوح بين الفولكلور والكاريكاتور، نجحت (أو أريد لها أن تنجح؟!) في إيصال البلدين إلى قدر من التكامل، أو حتى إلى تركيز »المصالح المشتركة«، كما كانت أيام الانتداب الفرنسي، (أو حتى إلى توحيد المراكز الحدودية!!).
إن الحاجة ملحة إلى صياغة علاقة عملية تكاملية بين »الشعب الواحد في دولتين«.
وهي حاجة متبادلة يستشعرها اللبناني كما السوري.
ولكن كيف السبيل إلى صياغتها بلغة عصرية، وبالأرقام التي تمثل المصالح الفعلية للبلدين اللذين يحكم كلاً منهما نظام مختلف جذريا عن الآخر؟!
كيف السبيل إلى تخفيف الشعارات، التي قد لا تعني شيئا، وتقديم الوقائع الفعلية؟
كيف السبيل إلى تغليب الاقتصادي على السياسي، والسياسي على الأمني، العملي على العاطفي، سواء أكانت العاطفة صادقة أم كانت خليطا من المجاملة والنفاق والتقية (لبنانيا)، والمداراة والحذر وفتح الباب أمام »خصوم الماضي« وكسبهم مجددا ما داموا لم يعودوا مصدراً للخطر أو منفذاً للتآمر (بالمنطق السوري)؟!
هل سيكون للحزب شأن في »الملف اللبناني«، أم سيبقى هذا الملف من اختصاص الرئيس و»لجنة لبنان«، التي ملأت الفراغ ثم تلاشت أو تلاشى دورها لأسباب متعددة؟!
وهل ستحتل تجربة لبنان (أو التحدي اللبناني) موقعها في خطة التجدد أو التجديد التي سيقرها المؤتمر، لا سيما على النطاق الاقتصادي، وبأية حدود سيفيد النظام السوري منها وهو ينشط قرارات انفتاحه من دون التخلي عن حذره الموروث؟
الأسئلة كثيرة ومتشعبة تطال أوضاع الداخل كما العلاقات مع الخارج، عرباً وعجماً، غرباً وشرقاً، وتتجاوز السياسة إلى الاقتصاد والثقافة والتعليم والخدمات العامة، وخصوصا أن قرارات المؤتمر سترسم معالم الطريق أمام بشار الأسد رئيسا، انطلاقا من كون الحزب هو مصدر الشرعية ومنه تنبثق القيادات والحكومات وهو مَن يضع البرنامج (نظريا) ويتابع التنفيذ (عمليا)..
مساء اليوم سينتهي المؤتمر، وستُعلَن قراراته ويُعلَن برنامجه الجديد أو المجدَّد… ثم تتوالى الخطوات التطبيقية.
ولن تجيب هذه القرارات عن كل الأسئلة المطروحة.
لكن خطاب بشار الأسد، كأمين عام جديد، لحزب يحاول تجديد نفسه، وكرئيس عتيد لسوريا التي تبدأ معه عهدا جديدا، سيتضمن على الأرجح مشروع برنامج الحكم في السنوات المقبلة.
ولن يكون الحديث عن لبنان علنيا اليوم.
لكن سوريا بشار الأسد ستكون لها خطة مختلفة نوعا عن سوريا حافظ الأسد في لبنان، كما أوحت الدلالات والمؤشرات والتصرفات خلال العشرين شهرا الماضية.
لبنان حاضر بقوة في المؤتمر، وحاضر بقوة في مجلس بشار الأسد، كما كان في مجلس أبيه الراحل العظيم.
لكن الحوار الفعلي حول لبنان ومعه، مرجأ لفترة، وإن ظل مفتوحا وقابلا لآراء متعددة تسبق بلورة القرار والسياسات ومواقع الحلفاء المتعددين والذين يفتقد بعضهم التوازن حاليا، في انتظار أن تنتهي الفترة الانتقالية في دمشق التي ستبقى لأمد طويل مدموغة بملامح حافظ الأسد، ومحكومة بنهجه المتميّز.

Exit mobile version