طلال سلمان

مواجهة بين غلطين

… وكان علينا، كما على كل الناس، أن نرجئ الحديث في موضوعات جوهرية وذات تأثير بالغ على المستقبل كالقمة الإسلامية في طهران، بنتائجها الباهرة ودلالاتها العميقة، والفضيحة المزدوجة التي تعرض لها النظام التركي فعرّته من آخر ورقة توت كان يستر بها المستفظع من عوراته، لنهتم بحدث محلي طارئ ناجم عن تصادم بين غلطين كلاهما فادح الضرر على صورة لبنان، بنظامه وحكمه والمعارضة فيه، لا سيما تلك الهانئة في »الخارج« والتي يدفع »الداخل« ضريبتها مع الأضرار المباشرة التي تلحق به نتيجة تخلفها الفاضح الذي لا يوازيه إلا تخلف السلطة فيه.
كان علينا أن نهمل »الحدث الإيراني« ونقيضه »الحدث التركي« وأن نهمل أو نرجئ المقارنة بين »الأول في الشرق الذي اقتحم الغرب واحتل مكانة مهمة فيه لأنه أصرّ على هويته التي تشرّفه وتميّزه«، و»الهارب من إسلامه وقد جعله ذات يوم أولاً في الشرق بل وفي العالم ليكون الأخير في الغرب«، المنسحب من طهران والمرفوض من الاتحاد الأوروبي والمنهك ولم يتبق له إلا تماثيل أتاتورك وهجانته التي تكتب القرآن بالحرف اللاتيني وتبني العلمانية والديموقراطية »ببساطير العسكر«..
كان علينا أن نهمل ذلك كله لنتابع فيلماً رديء الانتاج والإخراج والسيناريو والحوار حول قضية »الحرية« في لبنان، وأن ندوخ مع الناس وهم يعبّرون عن رفضهم لأن يفرض عليهم هذا الأسلوب في »النقاش« وفي »الأداء« وفي إقفال الملف من قبل أن يكتمل ومن قبل أن يقولوا رأيهم.
ماذا جرى ليل أمس، على وجه التحديد؟!
ببساطة: لقد استؤنفت »حرب التحرير«،
استؤنفت بجمهور قليل العدد، عالي الصوت، يرفع الشعارات العتيقة ذاتها التي لم تحمل الى اللبنانيين غير الموت في ظل تمديد الحرب الأهلية، وفي ظل نقلها الى داخل كل طائفة بعدما كانت خارجية، أي بين الطوائف،
استؤنفت بمواجهة »متلفزة« اختلطت فيها الهتافات الخاطئة بالممارسات الخاطئة فإذا الجمهور يقف مذهولاً عند حافة بحر من الغلط لا يعرف منه مخرجا يحفظ له عقله وكرامته في آن.
نزل »الجنرالات« الى الشارع، فتواجهوا بطريقة كاريكاتورية وان كانت دلالاتها دراماتيكية ولم يحصد الناس الا الثمر »المر« على جانبي الشارع الذي ظل فارغاً ينتظر من يملأه.
تواجه الغلط بالغلط بشراسة. رفع الاول شعاراً نموذجياً في مخاطبته للغرائز، فرد الثاني بغريزة الدفاع عن النفس النموذجية لابتداع الشعارات. تواجه الطرفان خارج العقل وخارج السياسة. غريزة مسلحة بالشعار الطائفي، وهراوة مسلحة بغريزة حفظ النوع داخل ملكوت السلطة، على حساب العقل والسياسة.
أهين لبنان مرتين، وأهينت سوريا مرتين.. فبعض أنواع الدفاع يحقق ما يقصر عنه الهجوم.
من قصف الحرية بالمدافع نزل الى الشارع باسم الحرية،
من تسبب في حربين على الاقل، »حرب التحرير« و»حرب الالغاء« تبدى امس وعبر انصاره وكأنه يكمل حروبه الناقصة، مستفيداً من ارتباك الحكم وخوفه من متهم كان يجب ان يحاكم على الدم الذي اراقه لا ان يتحول الى شهيد للاضطهاد الفكري…
برر كل غلط صنوه وخليفه الغلط الاخر،
وخرج الحكم من معركة كان يمكن تجنبها مثقلا بالجراح، وقد ارتكب خطأ سياسياً جديداً: مسح القذى عن وجه ميشال عون وقدمه كضحية بينما ضحاياه من الطوائف جميعا، ومن المسيحيين خاصة والموارنة على وجه التحديد، يزيدون عن مجموع ما خسرته الطائفة خلال حرب الخمس عشرة سنة.
وببساطة بات ممكنا تحوير الموضوع فصار »الوجود السوري في لبنان« بدل أن يكون »ثرثرة ميشال عون« حول دوره في الإنقاذ الذي أدى بالنتيجة الى تعطيل الدستور وإلغاء الحياة السياسية وإغراق اللبنانيين في مجموعة حروب بعضها ما يزال مستمرا وما زال لبنان يدفع من دم أبنائه ومن حرياتهم ومن هناءة عيشه كلفتها الباهظة حتى اليوم.
إنه حكم نموذجي في استعداء حلفائه الموضوعيين، الذين يخدمونه بنقده لترشيده، وفي تعظيم شأن خصومه الفعليين الذين يقدم لهم الخدمة تلو الخدمة حين يخرجهم من دائرة المتهمين، بل والمدانين بجرائم القتل العمد والتدمير المنهجي لمرافق البلاد واختلاس الأموال العامة، ليتيح لهم فرصة الظهور بمظهر »شهداء القمع« و»أبطال الحريات« التي أبطلوها وما زالوا يبطلونها حتى داخل أنصارهم فلا يسمحون لأحد بأن يكون في موقع »قيادة الظل« أو »الوكيل« في انتظار عودة »الأصيل«.
ثرثر أمين الجميل فلم يربح نصيرا واحدا، ولم يجد غير ابنه ليدافع عنه كلص متفوق في نهب المال العام،
ومُنع عون من الثرثرة، فصار قضية في الشارع المهجور والمطوق بالشرطة، ونزل المهووسون بالحرب لأن المسكونين بقضية الحرب غائبون أو مغيَّبون، ولأن الشرطة تؤكد الفراغ ولا تلغيه، وتكشف السلطة ولا تحميها،
وسوريا لا تحتاج إلى من يحميها في لبنان، لكن اللبنانيين بحاجة لحماية من الغلطين!

Exit mobile version