طلال سلمان

مهرجان فرح وافد واحزاننا مقيمة

وفر المهرجان الرياضي ـ الفني شبه السياسي الذي جاءنا بقادة ومسؤولين حكوميين وفرق متعددة الأنشطة من معظم البلاد التي كانت مستعمرات فرنسية، فرصة للتنفس، بعيداً عن اللغو السياسي الذي يرافق هموم التأليف الذي يعوقه «التشكيل» في الحكومة المرجأ إعلانها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لكن المهرجان المتعدد الهويات والهوايات والألعاب والألحان لم يكن بوسعه أن يطمس القلق الذي يعيشه اللبنانيون متخوفين من أن تمتد أزمتهم الحكومية لتلامس حدود الخطر على وحدتهم التي أصابها الكثير من الوهن، وبالتالي على كيانهم السياسي، خصوصاً أن «أهلهم العرب» في شغل شاغل عنهم، ولكل دولة من دولهم همومها الثقيلة التي تفاقم الفرقة مخاطرها…
وليس بين ما يطمئن أن تكون مجموعة من هذه الدول قد ذهبت بهمومها إلى الإدارة الأميركية تطلب منها الحماية والحل وضمانات الوجود، بينما هذه الدولة العظمى تحتل معظم الأرض والبحار والسموات، كما تهيمن على قرارهم السياسي، وبالشراكة مع إسرائيل دائماً.
تكفي قراءة سريعة للوقائع التي شهدتها لقاءات الرئيس الأميركي الأسمر (تحبباً!) مع الأطراف العربية، وبنوع خاص رعايته للمصافحة التي لا يمكن اعتبارها كريمة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية ورئيس السلطة التي لا سلطة لها في بعض الأرض الفلسطينية المحتلة، إذا ما نظرنا إلى نتائجها «المفجعة» لمن راهن عليها…
ولعل أول نتائجها تجدد المحاولات الإسرائيلية المتكررة لاحتلال المسجد الأقصى، مباشرة، ومطاردة من يأتي لحمايته بالصلاة فيه… وإذا كان الرصاص الإسرائيلي قد أسقط أمس حوالى الأربعين جريحاً، فإنه سيسقط غداً المزيد من الشهداء، لعل الفلسطينيين ييأسون فينصرفون عن مسجدهم «الذي باركنا حوله» مسلِّمين بالأمر الواقع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
(ملاحظة: كانت لفتة طيبة من رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أن يشير في كلمته بالفرنسية عند افتتاح دورة الألعاب الفرنكوفونية، أمس، إلى الظروف غير الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون الذين اضطروا إلى اللجوء إلى لبنان، والذين لا تبعد بعض مخيماتهم عن المدينة الرياضية، وبالذات منها مخيما صبرا وشاتيلا حيث نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي في مثل هذه الأيام من العام 1982 المذبحة المعروفة، ليطالب بمساعدتهم على إقرار حقهم بالعودة إلى ديارهم التي غصبها منهم الإسرائيليون).
لقد ذهب معظم قادة النظام العربي بشكاويهم إلى محتلي إرادتهم وأراضيهم… وهم في الغالب الأعم قد اشتكوا إخوانهم وأصدقاءهم الأقربين، موفرين للإدارة الأميركية الفرصة أن تظهر بمظهر من يغيث الملهوف ومن يهب لنجدة الضحية، في حين أنها السبب والمسبِّب والمستفيد من استعداء الشعوب بعضها على البعض الآخر، ومعها بطبيعة الحال شريكها الدائم: الإسرائيلي!
بل إن الإسرائيلي بات يتقدم من بعض النظام العربي عارضاً عليه «مساعدته» مشترطاً عليه فتح أجوائه لطيرانه الحربي ولصواريخه التي يهدد بدك إيران بها، ودائماً «لحماية» المستضعفين من أهل النظام العربي، ولتمكينهم من بناء «دولهم» المستقلة، الحرة، المنيعة، ومن ترسيخ الديموقراطية فيها!
لنعد إلى المهرجان الذي رأى فيه اللبنانيون لحظة فرح يتيمة… وعابرة!
في هذا المهرجان الذي تختلط فيه لغات المشاركين واهتماماتهم وهمومهم في بلادهم الفقيرة بل المفقرة بمعظمها والتي ما تزال تعاني من لعنة الاستعمار (القديم) بما يجعلها مفتوحة أمام الهيمنة الأميركية (الجديدة)، وبالتالي أمام التغلغل الإسرائيلي الذي يقدم نفسه «نصيراً للشعوب المقهورة» التي تمت تجزئتها وبعثرة قبائلها في دول قابلة للتفجر دائماً، وتدمير إمكاناتها حتى تعجز عن تبيّن طريقها إلى مستقبلها!
لقد انقلبت الآية، مرة أخرى، فصارت إسرائيل بديلاً من العرب مجتمعين وأولهم مصر ـ الدولة، يليها الأعمق ارتباطاً بتلك البلاد وأهلها وهم المغتربون اللبنانيون الذين وصلوها قبل قرن من الزمان تقريباً، وعاشوا فيها ومع ناسها، فأفادوا في نهضتها، كما أفادوا من خيراتها البكر.
كيف يمكنك في مثل هذه اللحظة ألا تستذكر من كان واحداً من أبطال تحرير أفريقيا بقدر ما كان بطلاً عربياً عظيماً كاد يقرّبنا من اختراق المستحيل، وهو جمال عبد الناصر، الذي غادرنا في مثل هذا اليوم قبل تسع وثلاثين سنة (28 أيلول 1970) لتتكامل المأساة إذ تصادف ذكرى وفاته الذكرى الثامنة والأربعين لسقوط أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث.
هل أفسدنا الاستمتاع بالمهرجان الفرنكوفوني؟
.. ولكن الخريطة العربية تملأها دماء شعوبها من اليمن وصولاً إلى العراق فإلى فلسطين التي تنزف قضيتها قداستها على أيدي أهل النظام العربي ومن ضمنهم جماعة السلطة (ومعارضوهم)، فإلى السودان و…
ولعل هذه الوقائع هي بين مصادر القلق الذي يستشعره اللبنانيون عميقاً، والذي لا يشكل العجز عن تشكيل حكومة إلا بعض عناوينه الفرعية!

Exit mobile version