طلال سلمان

من يواجة اسرائيل ثانية

صارت »الثورة« مجرد ذكرى عزيزة ولكن بعيدة، عند العرب، يرافق احتفالهم بها الكثير من الطقوس الجنائزية، ولا يمانع أعتى أعدائها القدامى في المشاركة بإحيائها وشرب نخب أبطالها طالما هو مطمئن إلى أنهم قد رحلوا مثلها..
ولكم يبدو المشهد، الآن، كاريكاتوريù وكبار القادة الإسرائيليين، وكلهم من المحاربين المجلِّين ضد الأمة بقيادة مصر عبد الناصر، يحتشدون في »السفارة المصرية« بتل أبيب للاحتفال بالذكرى الثالثة والأربعين لثورة 23 يوليو.
لكأنما الغد العربي حلم يوم غَرُبت شمسه في هذا الزمن الإسرائيلي،
فحينما همَّ العرب بأن يأخذوا مصيرهم بأيديهم كانت إسرائيل »مستوطنة« غريبة مزروعة بالقوة وبحماية »الدول الكبرى« في الأرض العربية، مصيرها معلّق على طبيعة التوازن أو التناقض في المصالح ومدى وعي العرب بقدرتهم على التأثير التي تستدعي بالضرورة الحد الأدنى من توحدهم حول الهدف حماية لوجودهم، ومن ثم لمستقبلهم فوق أرضهم.
اليوم يبدو وكأن المصير العربي كله في اليد الإسرائيلية.
لم تقم إسرائيل الكبرى، بعد، ولكن إسرائيل تتصرف الآن، في العالم كله، استطرادù مع العرب وكأنها أكبر من كبرى الدول وأعظمها قوة.
يتزايد الضعف والتشتت وافتقاد اليقين عند العرب، وتبدو دولهم كيانات هشة في انتظار هبوب العاصفة الجديدة، وتتسابق أنظمتهم إلى حماية ذاتها ولو على حساب الكيانات، فالروح عزيزة، والعرش لا يحتاج دائمù إلى وطن،
بالمقابل تتراكم أسباب القوة الإسرائيلية، وفي صلبها هذا التهالك العربي غير المحدود، فتبدو تل أبيب مصدر القرار الكوني ومقررة مصائر الشعوب جميعù ابتداء من الولايات المتحدة الأميركية وانتهاءً بمسلمي البوسنة!
لقد انتصرت إسرائيل في »التحدي العسكري« مع العرب،
كانوا ضعفاء، ممزقين، وجاءت أقوى من مجموعهم، وبقرار دولي لا يستطيعون كسره، خصوصù وأن دولهم الوليدة والفقيرة والكرتونية غالبù كانت تستند في وجودها إلى ذلك القرار الدولي ذاته.
ها هي إسرائيل الثانية تطل من قلب الركام العربي، معافاة برغم الهجانة والتناقضات الهائلة في تركيبتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية: فالدين هو القومية، خلافù لأي منطق علمي، والنظام السياسي »ليبرالي« المظهر في تعدّد أحزابه وتياراته في حين أن الاقتصاد »اشتراكي«، والدولة »عسكرية« تمامù بينما لا يتعب حكّامها الجنرالات من التباهي بديموقراطيتها!
أما العرب فيفتقدون البديهيات التي يرتكز إليها تاريخهم: الكيانية تتناحر مع القومية، والقومية تصطرع مع الدين، والفكرة الاشتراكية تعسكرت على أيديهم فسحقت وحدتهم الوطنية، واحتكار السلطة أخرج الناس من فكرة الوطن وردهم إلى أرذل مخلفات جاهليتهم: الطائفية والمذهبية أو القبلية والعشائرية…
لا يكاد العربي الآن يعرف نفسه ولا يجد لنفسه مكانù في أرضه، فإذا ضاق بواقعه خرج منه إلى حيث يتلاشى في المغتربات، طلبù للسلامة الشخصية المتيسرة طالما أن لا دور له ولا رأي في نظامه ولا في سياسات حكامه الذين يبررون وجودهم بأنهم ضمانات السلامة العامة، في حين أن استمرارهم بذاته يكاد يلغيها ويسلمهم رهائن أو أسرى أو أتباع للمهيمن الإسرائيلي.
الرد على »إسرائيل الأولى« وضع العرب على طريق الثورة.
ولقد تاهوا، وشردوا وأضاعوا الطريق ومعها الأوطان والقضية،
فكيف سيكون الرد على إسرائيل الثانية التي تبدو الآن وكأنها تحكم العالم مباشرة؟!
لعل الرد بثورة 23 يوليو كان أقل مما يجب،
ولكن ماذا عن الرد اليوم وغدù، على التحدي الإسرائيلي وقد بلغ أكمل تجلياته؟!
من يكمل النقص في 23 يوليو بدلاً من التشهير فيها أو التنصل منها؟!
في ذكرى ذلك اليوم الأغر تحية لجمال عبد الناصر، تحية لمن حاول، فشرف المحاولة لا يسقط بفشلها، خصوصù وأن الذين استسلموا ويستسلمون الآن قد أسقطوا قلاعهم بينما المواجهة في ذروة احتدامها.

Exit mobile version