ومن وسط الألم والجراح أعود لأخبر أننا لا نزال على قيد الحياة وأن ميزان الحياة والموت ما زال عندنا راجحا للحياة. لم أكن أتخيل أن يواصل العدو قصفه لغزة وأحيائها كافة بعد مجزرة المعمداني بالشدة نفسها. لكن الواقع كان مريرا: القصف كان هائلا هذه الليلة. شعاع القذائف كان يهز أركان البيت وتشعر أن لهيب الانفجارات يدخل إلى ما تحت الغطاء على رأسك. تهرب من القصف ذهنيا بنوع من الاستسلام للنوم لكنه يلاحقك طوال الوقت. أحيانا في صليات متتالية وأخرى في فترات مناوبة بين هدوء مؤقت وانفجارات عاصفة.
تنهض بين حين وآخر من فراشك لتحاول التعرف على المكان القريب الذي تم قصفه تجد الدنيا من حولك ظلام دامس تكسره هنا وهناك اشتعالات. بل وتزداد الرهبة في النفس حينما لا ترى تلك الأضواء الخافتة في بيوت الصامدين في المدينة فتشعر وكأنها تحولت إلى قبر كبير. الوضع بالغ الصعوبة رغم العلم بأن الفجر قادم وأن الشمس ستشرق من جديد ليحصي الأحياء أنفاسهم ويعدوا شهداءهم ويواسوا جرحاهم وأهاليهم. نهار جديد يبزغ كلنا أمل أن يكون أفضل بعد أن بانت للعالم بأسره وحشية ليس المحتل فقط وإنما أيضا الوجوه البشعة لمناصريه.
تنظر إلى غزة هذا الصباح فلا ترى تقريبا سوى ضباب يلفها سرعان ما يتقلص مع طلوع الشمس. تنظر إلى غزة من عل فترى مدينة هادئة لا تعبر عما يجول في داخلها من غضب على كل ما جرى ويجري لها. هدوء يسحر ويضلل من لا يعرف غزة وأهلها. ومن يعرفها يعرف أنها سوف تنتقم. هذا حالها في التاريخ. غزة أبيدت كرات عديدة في التاريخ ولم تنقطع فيها ومنها الحياة وظلت على مدى التاريخ حصنا. ويحضرني هنا شعر محمود درويش “هل كنت تعرفُ؟
كنتُ أعرف أن بركاناً سيرسم صورةَ
الكون الجديدة. لم تَقُلْ شيئاً وأَنتَ بريدُ هذي الأرض. كنتُ أَحاولُ
فيه من الأَشباح ما يكفي ليبحث في المقابر عن حبيبِهْ
.. كانت له أُمٌّ، وكان له جنوبٌ يستقرُّ على هُبُوبِه
كانت له أسطورةُ الحَدْسِ. المتوج بالمياه.. وفي دروبِهْ
مَلكٌ وإِمرأَة.. وجيشٌ يحرس الصبواتِ في الجسدين من أحلامنا
ولنا من الصحراء ما يكفي لنُعطيهَ زمام سرابنا وغمامِنَا
ومن الهشاشة ما سيكفي كي نسلّمه منامَ منامِنا”
الجيش الإسرائيلي كعادته يعلن تنصله من مسؤوليته عن مجزرة المعمداني ويحاول الصاقها بالمقاومة والأدهى أن أميركا قد تدعمه في ادعائه. امريكا شريك فعلي في العدوان وهي تتحمل المسؤولية الجزائية والسياسية والأخلاقية عن المجزرة ومعها دول مناصرة العدوان الأوروبية وغيرها.
على طريقة غوبلز النازية تكرر إسرائيل الرسمية كذبتها بأن مجزرة مستشفى المعمداني هي نتيجة سقوط صاروخ فاشل من الجهاد الإسلامي. تحاول ادعاء الموضوعية بأنها تعرف الجهة المطلقة للصاروخ وهي لم توجه الاتهام مثلا لحماس. والحقيقة أنه لو توفر للجهاد أو حماس صواريخ بهذه القدرات لكان بوسع أبطالهم القفز لتحرير الجليل انطلاقا من غزة وليس الاكتفاء بالاغارة على غلاف غزة.
أشياء كثيرة تحدث وتتغير بسرعة إلا شدة القصف الإسرائيلي. وتابع الجميع التطورات على صعيد ما كان يعرف بالقمة الاقليمية في عمان والتراجعات التي تحدث في مواقف بعض الدول. إسرائيل حتى الآن مستندة إلى الدعم الامريكي غير المحدود وإلى التساوق الأوروبي مع الدعم الأمريكي. وتحاول أن تربط نفسها بالمحرقة فتعامل حماس على أنها “النازية الجديدة” وفق قول نتنياهو وتعاملها أيضا على أنها “داعش” أيضا وفق نتنياهو. يلصقون التهم لجعل النضال الوطني الفلسطيني “وحشا كسرا” يهدد العالم بأسره. ومع ذلك اضطر البيت الأبيض، وفق موقع والا، للقول بأن الرئيس بايدن الذي سيجتمع مع كابينت الحرب الإسرائيلي سيعرض عليهم أسئلة صعبة بعضها عن غزة وبعضها الآخر عن الإقليم.
ولا يبدو أن أمريكا التي كانت صاحبة التاريخ الوحشي المريع في فيتنام وجنوب شرق آسيا وفي اليابان والفلبين وفي عراقنا الجبيب ليست صاحبة اهتمام بغزة. لكنها صاحبة اهتمام عميق بمنطقتنا التي تنتج 20 في المئة من النفط العالمي وتسيطر على ممرات برية وبحرية وجوية استراتيجية في العالم. ولذلك أمريكا قلقة جدا من واقع أن غزة قد تؤثر على الاقليم المتعاطف معها والرافض لإبادتها. اليوم ربما سوف يظهر مدى قدرة أمريكا على ضبط الجنون الإسرائيلي ومدى استعداد أوروبا لمسايرة إسرائيل وأمريكا.
