طلال سلمان

من يرفع جثث ضحايا عن طاولة مجلس وزراء

سينعقد مجلس الوزراء إذاً، استثنائياً (!!) اليوم، بضغط الخطأ القاتل الذي أعاد الضاحية ضحية، مرة أخرى، يوم الخميس الدامي.
سيكون على الطاولة المشرحة خمس جثث لضحايا التقصير في معالجة الأزمة الاجتماعية الناجمة عن المأزق الاقتصادي المتفاقم خطورة نتيجة الشلل السياسي الذي عطل المعالجة ورمى المسؤولية على الجميع… أي على لا أحد!
وسيدخل كل طرف من أطراف الحكم المؤتلف (!!) وفي حقيبته كرة من نار أو أكثر، يهدد بإلقائها على كل من يحاول تبرئة نفسه بإدانة غيره، حتى يعود الجميع إلى جادة الصواب ويتلاقوا كما في كل مرة على »دفن الشيخ زنكي« معاً!
مَن المسؤول؟
ذلك هو السؤال الذي سينضم، اليوم، إلى »شهداء الخميس الدامي«، لأنه لن يجد جوابه الجدي، أقله خلال الجلسة، أما بعدها فسيتكرر ما كان قبلها: سيتهم كل غيره، ضمناً، ليبرئ نفسه، و»سينثر دم الضحايا على العشائر« جميعاً حتى لا يكون حساب، وسيترك للقضاء كالعادة أن يسحب المسألة من التداول »حرصاً على السلم الأهلي« ومنع المتهورين من تجاوز »الخطوط الحمراء« التي تكاثرت حتى لتكاد تزيغ البصر وتحد من القدرة على التبصر وتمييز الشبح الإسرائيلي من سائر الأشباح المتربصة بنا!
÷ سيكون بوسع رئيس الجمهورية أن يقول إنه بحكم موقعه المحصّن بالدستور غير مسؤول، وأن وجوده على قمة السلطة يعطيه حق المساءلة ويمنع على الغير مساءلته، وإنه بوصفه رئيس البلاد وشعبها والقائد الأعلى للقوات المسلحة فإنه يطالب (مَن ؟!) بكشف الحقائق كاملة وتحديد المقصرين والمرتكبين لينالوا ما يستحقون من العقاب! وعلى هذا فقد طلب فور انفجار الوضع فتح التحقيق..
وقد يندفع الرئيس العماد إلى تحميل الحكومة المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية وبالتالي عن تدهور الأوضاع الاجتماعية بحيث باتت قابلة للتفجر، عشوائياً أو بالقصد، في أية لحظة وعند وقوع أي حادث فردي!
وقد ينتهي الرئيس العماد إلى اعتبار ما جرى »مؤامرة تستهدفه شخصياً كما عهده«!
÷÷ وسيكون بوسع رئيس الحكومة أن يقول من جديد إنه ممنوع من ممارسة مسؤولياته، وإنه آخر من عرف بما جرى، خصوصاً وقد كان في طريق العودة من موعد محدد سابقاً مع الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق… وإنه كان قد أبلغ أن هذا التحرك العمالي إنما يستهدفه، بشخصه وبالحكومة التي ليست حكومته… ثم إنه طالما نبّه إلى خطورة التداعيات التي ستنجم عن عرقلة مشروعه للإنقاذ الاقتصادي، لا سيما على الصعيد الاجتماعي. وقد يضيف فيقول إن المسؤولية تقع على غيره ممن عطلوا تنفيذ ما تقرر في باريس 2، مما كان من شأنه أن يخفف من ضغوط الأزمة على الناس في أرزاقهم وفي كلفة حياتهم اليومية.
÷÷÷ وسينقسم الوزراء، كالعادة، إلى ثلاث كتل:
واحدة تجد مهمتها في حماية رئيس الجمهورية، رمز البلاد، لتبرئة ذاتها معه..
أما الثانية فلسوف تتصدى لدفع الاتهام عن حليفها الكبير رئيس الحكومة، خصوصاً أن ما يطاله يطالها، وبالتالي فهي ستدعي أنها مستهدفة معه بالمؤامرة.
وأما الكتلة الثالثة فستتخذ كالعادة موقع »قوة الفصل« بين الحلفاء المشتبكين، منبهة إلى أن المركب مهدد بالغرق بجميع من فيه..
على أن الأمر سيختلف »إخراجه« قليلاً هذه المرة. فثمة اتهامات خطيرة أطلقها »الحليف« الخارج من التحالف (منتصراً أو مهزوماً لا فرق) ضد »حليفه« السابق، وثمة خطب خرجت عن النص في مهرجانات لتغمز من جانب من كانوا »متحالفين بالدم«، وثمة إيحاءات كادت تسمي من أشعل الحرائق ليستدرج الجيش إلى حيث لا ضرورة لوجوده مما يتسبب في مواجهة لم يكن يريدها، وثمة إشارات إلى أن بعض »رفاق السلاح« أرادوا الانتقام بالفتنة من نتائج الانتخابات البلدية حيث تواطأ الحليف الأول مع الحليف الثاني ضد الحليف الثالث فأسقطه..
وستعنف المشاحنات أكثر من المعتاد، وسيتبادل الأخوة الأعداء اتهامات خطيرة بإذكاء نار الانقسام (الطائفي أو المذهبي أو الجهوي، لا فرق) للانتقام من الحلفاء الذين صاروا خصوماً..
وبعد حفلة من »الردح« المتبادل، ينسحب البعض، خلالها، ويسعى بعض آخر إلى التهدئة، ثم تصدح الهواتف بين من في الداخل والمراجع في الخارج، فيعود المنسحبون، ويتفق على البيان الذي سيلقي التهمة على »عناصر الشغب«، واعداً »بالمضي في التحقيق حتى كشف الحقائق كاملة، بالمحرضين والمتورطين والذين استغلوا الفوضى للإساءة إلى صورة الدولة والشعب« في لبنان الأخضر، الذي يستعد لاستقبال مليون مصطاف وعشرين مليار دولار كاستثمار في مختلف مجالات الإنتاج!
* * *
»هو حادث، مجرد حادث، يقع مثله في أكثر البلاد تحضراً… لعله نجم عن تسرع أو عن ارتباك، فبعد الرصاصة الأولى في »حي السلم« المكتظ بالذين لا أسماء لهم ولا قيادات مسؤولة عنهم، يمكن توقع هذا الانفلات الذي دام لساعات، وكاد يحرق الضاحية ومن وما فيها. لكن تحميل المؤسسة العسكرية خط أحمر! ثم ان الاتحاد العمالي العام غير موجود هناك، وإن كان له وجود رمزي فليست لديه القدرة على التجييش، فإن نجح فجيّش فليست له القدرة على الضبط. و»حزب الله« مسؤول عن »مربعه الأمني« فحسب… وحي السلم، كما وزارة العمل خارج هذا المربع. والنتيجة: ليرحم الله من سقط في الحادث الذي بدأ صغيراً ثم ضخمته الفوضى وسوء التصرف ورد الفعل العصبي الذي استولده الخوف. قاتل الله ساعة الغفلة… إنها من عمل الشيطان«!
لكن هذا المنطق التبسيطي لا يكفي للتفسير أو لاعتبار الحادث من الماضي… فمن يكفل ألا يتكرر غداً أو بعد غد، طالما أن لا مسؤول عن الدم المهدور تمكن محاسبته ومعاقبته بمستوى جريمته؟!
والجواب: لا أحد! فالبلاد تسير وعين الله ترعاها، أما الدولة الدول فكل منها مشغول بحماية نفسه وإلى جهنم كل الآخرين وبئس المصير!
* * *
أسوأ ما في أوضاعنا في لبنان أننا لا نستطيع التوجه إلى أي مرجعية فيه، لا بالشكوى ولا بالحساب..
فكل من في مواقع المسؤولية مشتبك في صراع البقاء والإلغاء مع كل الآخرين، بحيث لا تجد أية مرجعية الوقت اللازم للاهتمام بما هو خارجها، أي الوطن ودولته وشعبه الذي يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة.
مع ذلك فإن هذا الشعب المفقَر، بقرار معلن، يدلل عندما تسمح له ظروفه البائسة أنه أرقى من حكامه بما لا يقاس.
فعلى امتداد شهر كامل ذهب مئات الألوف من المواطنين، نساءً ورجالاً شيوخاً وفتية متحمسين، إلى صناديق الاقتراع، من أدنى لبنان إلى أقصاه، فأدلوا بأصواتهم، وانتخبوا من ارتأوا أن ينتخبوه، للمجالس البلدية والمختارين، من دون أن يرتكبوا خطأ واحداً يشوّه إيمانهم بحق الاختلاف، أو يدلل على دمويتهم أو على شراستهم في مواجهة القوات المسلحة.
… ولقد كان بين أولئك الناخبين والمرشحين الذين أجبرتهم ظروف الإفقار المقصود، بعدما بارت الزراعة وانعدمت فرص العمل في قراهم ودساكرهم، إلى هجر مساقط رؤوسهم حيث كانوا يعيشون من أرضهم وفيها بكرامة، والقدوم إلى ضواحي العاصمة لينضموا إلى من سبقهم إلى »أحزمة البؤس« من حول بيروت، والتي أشهرها »الضاحية«، وقد غدا عنوانها هذه الأيام »حي السلم«، الذي أطلقت عليه المزايدة السياسية، ذات يوم، تسمية حي الكرامة، بينما بقي واقعه المشين على ما هو عليه.
* * *
كم دولة في لبنان؟
يكاد يكون لكل طائفة دولتها، أو دولتاها، ولكل منطقة دولتها أو دولها، بعدد »الأحزاب الحاكمة« أو المتحكّمة فيها.
ولكل طائفة أجهزة حكمها (المفرد أو الثنائي أو
المتعدد)، ولها إدارتها، ولها نقاباتها، ولها ناخبوها (والبولمانات والجرافات والدولارات)… ولها قرارها المستقل، عن الحكم والحكومة المركزية (؟!) إلا إذا »طُلِب« إليها »التحالف« أو »الائتلاف« الذي يزيد من »حصانتها« وامتيازاتها، ولا يلغي منها شيئاً..
لكأننا نعيش ظروفاً أسوأ من أيام الحرب الأهلية، وأسوأ بالطبع من أيام تحكّم الإقطاع بالناس وقد كانوا »مرابعين« عنده. يومها كان للناس الحق في »الربع«، على الأقل!
دولة اقتصادها خَرب، وجامعتها الوطنية تكاد تقفل أبوابها أمام طالبي حقهم في العلم، سواء التقليدي أو الذي يُدخلهم العصر، وتعليمها الرسمي متهالك من الحضانة فما فوق، وصحة مواطنيها استثمار ممتاز للسياسيين والمستشفيات والأطباء وتجار الأدوية والصيادلة، مواسمها الزراعية كاسدة، صناعاتها المحدودة لا تجد الحماية ولا الأسواق، شبابها المتعلم منذور لبلدان أخرى، والأيدي العاملة فيها عاطلة عن العمل، لا ترى لها ملجأ إلا في الوظيفة الحكومية، ولو مؤقتة، وهي بطالة مقنعة، أو في شركات الأمن التي تنبت كالفطر لحماية ما تبقى من استثمارات من الفقراء المتكاثرين كالفطر!
دولة دخلها المحدود يأتيها من الضرائب المباشرة والرسوم والقروض وسندات رهن الاقتصاد الوطني..
* * *
اللافتات كثيرة، والمكاتب عديدة، لكن المؤسسات الحزبية والنقابية تكاد تكون مجرد تسميات موروثة من عهد مضى، أما ما استجد فهو ابن شرعي للحرب الأهلية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن باب الدفاع عن العمال وحقوقهم، فإن السؤال مشروع عن الاتحاد العمالي العام: من يمثل في مجتمعه؟! كم عاملاً حقيقياً ينضوي تحت لوائه، وعمال الزراعة أشقاء بغالبيتهم الساحقة، وعمال الصناعة أجانب، بأكثريتهم، أما العمارات فيكاد يصبح بوابوها جميعاً من الآسيويين الآتين من البعيد البعيد.
معروف أن معظم الأحزاب ممثلة في هذا الاتحاد التمثيلي.
ولكن السؤال المزدوج هو: متى انضم آخر عامل إلى أي نقابة في هذا الاتحاد؟! ومتى انضم آخر نصير إلى أي من هذه الأحزاب الممثلة فيه؟!
وبالتالي يصبح مفهوماً أن تكون الدعوة إلى التظاهر والإضراب العام أثقل من أن تتحملها أكتاف الاتحاد العمالي العام (وأحزابه)، وأن يكون ضبط الحركة في ما يؤدي إلى النتائج المرجوة مهمة مستحيلة على نادي الوجاهات العمالية هذا، الذي يظهر قادته في الأخبار المتلفزة بأحدث موديلات الموضة وأغلاها.
* * *
يقول »الأذكياء« وهم غالباً سيئو الظن: إنها معركة الرئاسة!
.. ولكن هل هذه الممارسات التي يقدم عليها مختلف أركان السلطة، تبقي »دولة« تستحق رئاستها معركة تتصادم فيها الإرادات، يوم تحين ساعة القرار؟!
إن كلاً من المعنيين يعترف بأنه طرف غير مقرّر في معركة بهذا الحجم الخطير… ومع ذلك فكل منهم يتصرف بمنطق »الأمر لي«!
ثم: أي دولة ستؤول إلى »العهد الجديد« أو »المجدد« بالتمديد أو التجديد طالما أن أركانها الحاليين لا يفعلون إلا تهديم ما تبقى من رموز الدولة القائمة، وإلا التفريق بين »طوائف« شعبها الممزق بتقسيم معلن، وإلا تخريب اقتصادها المنهك بالديون، وإلا تثقيل ماليتها الكسيح بالمزيد من الأعباء، وهي العاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الروتينية التي لا مفر منها (الرواتب والأجور وإدامة الإدارة… ولو فاسدة مفسدة)..
* * *
الحكم قاتل، أم الحكم هو القاتل والقتيل؟!
ومن سيرفع الجثث عن طاولة مجلس الوزراء اليوم،
وهل سيترك الجميع الأمر لصاحب الأمر، وينفضون أطواقهم من المسؤولية عما حدث بالأمس، مرتاحين إلى أن دمشق مضطرة لأن تتحمل »حلفاءها« بأخطائهم وخطاياهم، لأن ظروفها لا تسمح بترف المحاسبة فضلاً عن التغيير؟!
وإلى متى ستظل دمشق ملزمة بأن تحل المشكلات وتتحمل الأخطاء التي ترتكبها هذه السلطة، بأطرافها المختلفة، وكل إشكالات علاقتها بمجتمعها المتروك مع همومه للريح؟!
ليدفن الموتى الموتى، إذاً. عاش لبنان!

Exit mobile version