طلال سلمان

من لبنان وفلسطين وعراق احتلال تحويل سياسي الى طائفي ومذهبي

لم يحدث في تاريخ الصراعات السياسية، أقله على المستوى العربي ومن ضمنه المحلي، أن وُجّهت الاتهامات بالعمالة للأجنبي إلى الملايين ، وبالاستطراد إلى طوائف أو مذاهب بأكملها… لكن هذا يحدث اليوم، وفي أكثر من بلد عربي، ولبنان في الطليعة!
كذلك لم يحدث في تاريخ الصراع مع الأجنبي أن تمّ الفرز بين مقاومي الهيمنة الأجنبية على قاعدة طائفية أو مذهبية، وبالجملة، التي تعني أيضاً الملايين، وربما عشرات الملايين.. وحيث تعذر استخدام القاعدة الطائفية أمكنت الاستعانة بالفروق بين الجماعات الأصولية وبين القائلين ب المجتمع المدني كوسيلة اتصال بالغرب واعتماد لقيمه، قديمها الديموقراطي، وجديدها المتصل ب الفوضى الخلاقة .
وفي حومة الصراع المفتوح حالياً في منطقتنا بين المشروع الأميركي وبين سعي شعوبها إلى تحقيق طموحات متواضعة في حرية القرار والتقدم والكفاية والأمن، يبدو الترابط واضحاً بين الجبهات التي تمّ تحويل الخلافات السياسية فيها إلى حروب مفتوحة بين قواها المحلية، تستخدم فيها الأسلحة جميعاً، لا سيما المحرّم منها كالطائفية والمذهبية، مع استعادة انتقائية لبعض الصفحات السوداء في التاريخ العربي والإسلامي.
من هنا فإنه لا يمكن الفصل، مهما اجتهد المجتهدون، بين ما يحصل في كل من لبنان وفلسطين والعراق (على اختلاف الظروف) في ما يتصل بالصراع على السلطة وتحديد وجهتها بشكل حاسم ونهائي.
فالتزامن مطلق في توقيت التصعيد، وفقاً لجدول أعمال أميركي يكاد يكون معلناً، بمعزل عن رغبات الأطراف المحلية أو مدى استعدادها لمعارك فاصلة.
? ? ?
وفي ما خص لبنان بداية: تستعصي على الفهم المبررات التي تقدَّم، الآن، لرفض مبدأ تعزيز الشراكة بين من كانوا شركاء فعلاً، بحيث بات تعديل محدود في الحكومة ينذر بالتوغل في حقل ألغام طائفي نهايته فتنة شاملة ومدمرة!
يستعصي على الفهم، أكثر، قبول الاتهامات المتبادلة، والتي تقسم حشود اللبنانيين إلى طوابير من العملاء إما لسوريا وإيران، وإما للولايات المتحدة وإسرائيل، من دون أن ننسى فرنسا جاك شيراك التي تحولت برعونة إلى طرف مخاصم وقد كانت صديقاً للجميع.
ومع أن تبادل الاتهامات كان مألوفاً على الدوام في الحياة السياسية اللبنانية، فلم يحدث من قبل أن اتُّهمت الجماهير بالعمالة انطلاقاً من طوائفها بل من مذاهبها ، فصار السني أميركياً كاملاً، و الشيعي إيرانياً بالمطلق، حتى لو كان المتهمان نسيبين، واحدهما صهر الآخر وخال أولاده!
تتفرع من هذا الواقع العجيب طرائف بلا حصر: فهذه التظاهرة المليونية خالصة الولاء للأرز والسيادة والاستقلال، وتلك التظاهرة المليونية مأجورة أو مضللة أو مقودة بتعصبها الطائفي وولائها للنظام الأمني المباد؟!
وتلك القوة السياسية التي كانت بالأمس شريكاً كامل الوطنية، بل ولديها فائض يمكن تجييره للغير، باتت اليوم في موقع الخصم، وبالتالي فلا بد من إسقاط عباءة الوطنية عنها لكشف عدائها للديموقراطية، ثم خروجها على الوطن وصولاً إلى اتهامها بالعمالة… للمجوس!
وفي الطريق بين هذا وذاك تستباح كرامة المقاومة، ويسفّه الصمود الوطني للعدوان الإسرائيلي ويشهَّر بالمجاهدين، من صمد منهم أو سقط شهيداً من أجل الوطن وأهله، وينكر عليهم وهم الحلفاء الذين عززوا بدمائهم كرامة لبنان وأمته حقهم في أن يكون لهم رأي في المسائل الأساسية المطروحة.. فإن طالبوا بحق الرأي اتهموا في وطنيتهم وصُنفوا عملاء للخارج يريدون إسقاط القرار الوطني بالمحكمة الدولية (وهم لم يعارضوها) أو بمؤتمر باريس 3 (وهم بهذه النسبة أو تلك، شركاء في الإعداد له)..
… ويكون الرد من الطبيعة ذاتها: السير في ركاب المشروع الأميركي للمنطقة، والتواطؤ مع الأجنبي ممثلاً بالإدارة الأميركية والرئاسة الفرنسية، أساساً، ورهن البلاد للمصالح الأجنبية، وإفقار المواطنين، وإغراق البلاد تحت ركام من الديون تحتاج الى أجيال للوفاء بفوائدها.
كأنما الاتهام بالخطأ السياسي في إدارة شؤون البلاد لا يكفي..
أو كأنما السلوك الذي يتجاوز السياسي إلى ما هو طائفي أو مذهبي ليس جريمة عظمى بحد ذاته.
? ? ?
من تجربة لبنان إلى تجربة فلسطين تحت الاحتلال وسلطتها التي لم تكن في أي يوم سلطة فعلية، وانتهاءً بمحنة العراق تحت الاحتلال التي تلقي بظلها الدموي الأسود، يتبدى كأن عصر التحالفات أو الائتلافات على قاعدة برنامج مشترك بين قوى متعارضة في توجهاتها السياسية قد انتهى، وجاء وقت الفرز الكامل والمطلق وفقاً لمبدأ جديد قديم هو: مَن ليس معنا فهو ضدنا.
ولعل أمر العمليات الجديد باستعجاله فض الارتباطات القديمة يعكس رغبة في الحسم الآن، وفوراً، إما بدافع التخوف من احتمالات متوقعة في تعديل موازين القوى، وإما استباقاً لانهيارات مرتقبة في صفوف الشركاء بالرغبة أو بالاضطرار في المشروع الأميركي للمنطقة، إما تحوطاً للصدمة التي قد يحدثها في صفوف هؤلاء الشركاء أي تعديل اضطراري في الخطة التنفيذية لهذا المشروع… وانطلاقاً من جبهة العراق تحت الاحتلال الأميركي، المفتوحة على مداها لكل من أراد المشاركة في… الغنائم!
? ? ?
أكثر ما يتبدى هذا الاستعجال، في فلسطين وسلطتها تحت الاحتلال إضافة إلى لبنان..
فمن اللافت أن يستمر رئيس السلطة في بعض فلسطين المحتلة، وعلى امتداد عام كامل، على رفض نتائج انتخابات المجلس التشريعي التي فازت فيها لأسباب متعددة حركة حماس ، برغم أنه قد كلفها مرغماً بتشكيل حكومة منع حركة فتح من المشاركة فيها، ثم مضى يناصبها العداء في الداخل والخارج، بل ويستعين عليها بالخارج (ومن ضمنه الاحتلال الإسرائيلي)، مفترضاً أنها ستسقط بالضربة القاضية..
وعندما تبدى عجز هذه الحكومة عن الإنجاز، بسبب من الحصار الداخلي والخارجي، وسلّمت حماس باستقالتها تمهيداً لقيام حكومة اتحاد وطني على قاعدة وثيقة الأسرى ، رفض رئيس السلطة الشراكة، بل اندفع إلى حرب علنية مكشوفة كان بديهياً أن تؤدي إلى مقاطعة شاملة… وكان لا بد من أن تنزل بعد احتدامها إلى الشارع ، حيث البطالة والجوع وافتقاد الهدف (برغم وضوحه). وكان بديهياً أن يرافق شحوب الهدف السياسي الجامع فرز للقوى، التي ارتدت إلى حمائلها و عشائرها بعد سقوط راية التحرير، وحصنها المنيع ممثلاً بالوحدة الوطنية.
والحَكَم في الشارع بين رفاق السلاح القدامى والمختلفين الآن على الهدف، هو السلاح … مع تشجيع أميركي معلن (وبالتالي عربي) للرئيس تصاعد إلى حد التحريض. ثم تعزز التحريض بمساعدة عاجلة بملايين الدولارات لتتسلح قواته وزيادة عديدها بحيث تتمكن من حسم الصراع بأقصى سرعة لمصلحة تياره المعتدل ، مع معونات إسرائيلية عاجلة ومعلنة، سياسية وعسكرية ومالية، وكل ذلك وسط تهليل عربي لهذا الانتصار على قوى التطرف .
اللافت هنا أن بين الاتهامات التي وُجهت إلى حماس ما يتجاوز الطعن في مشروعها السياسي إلى حد إدانتها بالولاء (مذهبياً!!) لإيران، وهي الحركة التي خرجت من رحم الإخوان المسلمين.
? ? ?
فأما العراق تحت الاحتلال الأميركي، فتكفي واقعة إعدام صدام حسين لكشف كل المستور من الخطة الجاري تنفيذها لضرب الوحدة الوطنية بالطائفية والمذهبية والعنصرية لتفتيت أرض السواد والتأسيس لحرب أهلية لا تنتهي، مع الانتباه إلى قابليتها للتمدد في مختلف الاتجاهات.
لقد ترك المحتل الأميركي لأطراف عراقية موتورة ومحكومة بعقدة الثأر، أن تحاكم صدام حسين على بعض جرائمه الصغيرة ، والأقل خطورة في سجله الحافل بالحروب التي أودت بالملايين من العراقيين، في الجنوب والشمال والوسط والشرق والغرب… إلخ.
ثم ترك المحتل الأميركي لهذه الأطراف أن تمارس نزعتها الثأرية في تنفيذ حكم الإعدام، وفي اختيار موعده الفضائحي، وفي تصوير جريمتها النكراء نفاقاً لضحايا الرجل الذي بدأ حياته مناضلاً، ثم تحول في السلطة إلى طاغية، وانتهى طغيانه بأن أورث العراق للاحتلال الأميركي…
واختتمت المأساة المهزلة بأن تحول الطاغية الى شهيد لطائفته (!!) داخل العراق وخارجها، وهو الآمر بإعدام آلاف الآلاف من نخبها ومناضليها، وصار القائم بالأمر الذي أعمته عقدة الثأر والرغبة في تثبيت نفسه كرجل الاحتلال الأميركي الأول، وكأنه قد مثل الشيعة في جريمته السياسية هذه.
وهكذا تسقط المعاني السياسية لمعارك التحرر والتحرير ومواجهة الاحتلال لاستنقاذ الوطن، في غياهب بئر الصراعات المذهبية، في أرض الرافدين بكل أبعادها التاريخية المأساوية.
? ? ?
ليس من شأن محلي في هذه المنطقة على امتداد أرضها الواسعة.
ولعل من الأهمية بمكان أن يستعاد الطابع الوطني لكل معركة من هذه المعارك المفتوحة، فالتلاقي فوق أرض وطنية ممكن، بل هو بديهي، بينما اللقاء مستحيل إذا تم تشقيق الأرض وفرز المواطنين بحسب طوائفهم ومذاهبهم فتسقط الأوطان والوطنية، وترفرف فوق هذه الأرض جميعاً أعلام الهيمنة الأميركية وفي قلبها العلم الإسرائيلي.
والمعركة مفتوحة بعد..
والأمل ما زال موجوداً بإمكان التنبّه إلى دلالاتها الفعلية، وعودة الوعي إلى أطرافها، قبل أن يغرق الجميع في دماء الفتنة التي سيكونون بالرغبة أو بالمصلحة أو بالعجز أبطالها بينما شعوبهم بين الضحايا.

Exit mobile version