طلال سلمان

من قاهرة عرب وعنها

في القاهرة يصعب عليك التسليم بأن »الشؤون العربية« قد باتت اختصاصاً لنخبة سياسية محدودة التأثير في القرار السياسي، والأخطر أنها محدودة العدد أيضاً، وهي تنتمي بأكثريتها إلى العهد الناصري، أو أنها تتلمذت على يدي بعض الرموز النظيفة لذلك العهد.
وإذا أنت حكمتَ على مدى اهتمام القاهرة بالقضايا العربية من خلال أجهزة الإعلام المصري، رسمية أو »أهلية«، حكومية أو »معارضة« و»حزبية« أو فردية، لأصبت بصدمة قاسية: فلا مستوى المتابعة مقبول، ولا مستوى الاهتمام يتناسب مع خطورة اللحظة السياسية التي يعيشها العرب في مختلف أقطارهم، ومصر منهم في موقع القلب وفي دور مركز القرار، أو هذا هو المنطقي والطبيعي بقوة الحجم والوزن وبالجدارة المؤكدة عبر التاريخ.
صار العرب »خارجاً« في أي قطر عربي، بما في ذلك مصر.
قضاياهم شؤون »خارجية«، والتحفظ هو الطابع الغالب على التعامل، سواء على المستوى الرسمي أو الإعلامي.
حركة الدولة في مصر تتركز على العالم الغربي، ونشاط الرئيس حسني مبارك كثيف في أوروبا، متواصل مع الولايات المتحدة الأميركية، ضيّق الرقعة عربياً، وله في مجمله ثلاث محطات أساسية: الرياض ودمشق وبينهما دولة الشيخ زايد بن سلطان…
على أن فلسطين، أو للدقة: السلطة الفلسطينية، ما تزال تشكّل موضوع اهتمام أو رعاية استثنائية، ربما لأن القاهرة تستشعر مسؤولية خاصة عن مسيرة الفلسطينيين بقيادة عرفات في اتجاه »التسوية« بالمفاوضات المباشرة والاتفاقات المنفردة، وهي السياسة التي دشّنتها قاهرة السادات وما تزال معتمدة حتى اليوم، بغض النظر عن الإيمان بجدواها، إذ لا بديل منها في المدى المنظور، ثم ان التراجع عنها مكلف جداً، وربما يكون مهلكاً.
ومع أن هذه الرعاية تكاد تكون شرط حياة لياسر عرفات وسلطته إلا أن هذا المناوِر المحترف، المستريب بالعرب عموماً، والمتخوّف من حصارهم وتحديد حركته ربما أكثر من خوفه من الإسرائيليين، كثيراً ما »باغت« القاهرة بخطوات غير متوقعة، وكثيراً ما »شاورها« بعد التوقيع، ولمساعدته على »الإخراج المقبول« للصيغة المرفوضة ليس إلا..
ودائماً يلوح الظل الأميركي على القرار المصري، أحياناً كحاجز أو واقٍ من صدمات الضغط الإسرائيلي، وفي أحيان أخرى كصيغة مخففة أو »وسيط« لتمرير »المطلب« الإسرائيلي وكأنه خلاصة اتفاق ثلاثي وليس محصلة ابتزاز مباشر.
ولأن للأميركيين وجوداً حسياً مباشراً في كل دوائر القرار فإن النفوذ الإسرائيلي المموّه يمارس تأثيره في دائرة أوسع بكثير من المقدَّر له، أو مما يمكنه ممارسته منفرداً.
وتسمع من يحدثك عن السفارة الأميركية في القاهرة باعتبارها أكبر وأخطر مركز دبلوماسي أميركي خارج واشنطن، لأنها »مسؤولة« مباشرة أو مداورة عن الحركة الأميركية في كامل منطقة الشرق الأوسط.
لا مجال لأن تسأل أو تسمع أو تقرأ عن لبنان…
أخباره نتف مما تنقله الوكالات العالمية، لا سيما ما يتصل بالاحتلال الإسرائيلي وعمليات المقاومة الباسلة التي امتدت إليها مؤخراً يد التشهير الإعلامي والاتهامات السياسية الظالمة والتي وصلت إلى حد اتهام »حزب الله« بالخيانة والعمالة والتآمر على لبنان والعرب والمسلمين…
ولم تكن مصادفة أن تتعدد الأصوات في هذه الحملة فتشمل بعض المجلات (روز اليوسف) والصحف القومية (أخبار اليوم) إضافة إلى تلك الإعلامية التي ظهرت على قناة »الجزيرة« لترمي بماء النار وجه الشهداء، الذين ضحّوا بدمائهم ليس من أجل لبنان وحده، بل من أجل العرب والمسلمين عامة، وفي الطليعة منهم مصر التي تغيّبها ظروفها الحرجة عن دورها القائد والرائد في العمل للتحرير وإجلاء المحتل الإسرائيلي.
في ضوء هذا الواقع يمكن فهم »البروتوكولية الباردة« التي أحاطت باستقبال الرئيس سليم الحص في القاهرة، فمع الحرص المؤكد على لبنان والسلم الأهلي فيه، ومع الاستعداد للمساعدة في حدود الممكن، ومع التشديد على أهمية استقرار الحكم وتوازنه وعدم الافتئات على موقع رئيس الحكومة فيه، فإن القاهرة لا تريد أن تكون طرفاً في أي »عراك« داخلي، ولا تريد خاصة أن تتسبّب أية إشارة خاطئة في أزمة مع دمشق المعنية بالشأن اللبناني والمسؤولة عنه ماضياً وحاضراً وحتى إشعار آخر.
العراق حاضر كعبء ثقيل، ولا سياسة محددة ازاءه، لأن التعاطف مع شعبه مكلف، كما أن استعداء حاكمه يضعف الحضور المصري في أي مشروع للحل أو للتسوية ولو بعد حين… ثم إن المناخ العربي العام لا يحتمل بعد أن تتصدى عاصمة بوزن القاهرة لمساع حميدة تحت عنوان »طي صفحة الماضي والدعوة إلى مصالحة عربية غير مشروطة«.
بين ما يثير الشجن، أخيراً، طريقة تعاطي الإعلام المصري مع القضية الكردية، ومع عملية المطاردة الدولية لأسر عبد الله أوجلان، لقد أُهدر الدور التاريخي للقاهرة في مجال العمل لتمكين الأكراد من الحصول على حقوقهم، ولو كأقلية قومية، حيثما هم، سواء في العراق العربي أم في تركيا أم في إيران أم في مناطق تواجدهم الأخرى.
وفي تقدير كثير من المراقبين فإن القاهرة ضيّعت فرصة أخرى لتأكيد حضورها المؤثر كمرجع للأقليات القومية أو الدينية سواء أكانت داخل الوطن العربي أم في دول إسلامية مجاورة، خصوصاً وأن وزنها يساعد الأكراد على الاعتدال كما يساعد تركيا على اعتماد سياسة عاقلة فيمكن صياغة تسوية تاريخية مقبولة.
على الهامش: تلفتك أخبار »الخصخصة« أو بيع القطاع العام لمتموّلين مصريين أو مستثمرين عرب أو شركات أجنبية متعددة الجنسية.
فبعد ما يقرب من ثلاثين سنة على وفاة جمال عبد الناصر والانقلاب السياسي الشامل الذي أحدثه السادات، بكل الآثار الاقتصادية المترتبة عليه.
وبعد كل عمليات التشهير اليومية بالمنهج الاقتصادي الذي اعتمده العهد الناصري والذي بنى قلعة صناعية ممتازة في مصر.
… ها هي صفقات بيع القطاع العام ما تزال مستمرة، ناقلة مرة أخرى الثروة القومية من يد الدولة إلى أيدي أفراد وشركات ومستثمرين بينهم الكثير من الأجانب والعديد من العرب الطامعين بأن يشتروا بالرخيص ذلك الذي بناه شعب مصر بعرق العمر.
وآخر الصفقات المعلنة بالمليارات.
أما أحاديث الصالونات والمقاهي فعن صفقات عربية تتناول الفنادق والمنشآت السياحية، وفي كثير منها تكاد العمولات تعادل رأس المال.
وبرغم ذلك فالقاهرة هي عاصمة العرب، أمس واليوم وغداً..

Exit mobile version