طلال سلمان

من فلسطين الى عراق تثبيت احتلال حرب اهلية

ليست الفاجعة محصورة ومحدودة في ما حصل للعراق ويحصل فيه بعد سقوطه بين براثن الاحتلال الأميركي، على خطورة ما يشهده هذا البلد العربي الكبير من كوارث وما يتهدده من مخاطر تهدده في وحدته الوطنية، وبالتالي في كيانه السياسي.
الفاجعة تتمثل أو هي تكتمل في افتقاد المرجعية العربية التي كان يمكنها أن تمنع الكارثة أو أن تحد إذا ما عجزت عن منعها من تداعياتها المروعة التي قد تصل إلى حد تفجير العراق، الدولة والشعب، بحرب أهلية تتخذ من الفتنة الطائفية عنواناً وتبريراً.
هي هي الفاجعة تتكرر في العراق كما في فلسطين من قبل، واليوم، وغداً، بغير أن يتحرك من تبقى من »العرب« لوقفها بذريعة العجز وافتقاد القدرة على التأثير.
على امتداد زمن الانتفاضة، ومع تفاقم الوحشية الإسرائيلية في قمع الشعب الفلسطيني، بالقمع الدموي اليومي والتدمير المنهجي للبيوت والمنشآت والمرافق الفقيرة ومصادر الرزق المحدودة، والتجريف المتواصل للبيارات وحقول الزيتون، كان »الدور العربي« في فلسطين يتراجع ويتراجع حتى انعدم أو كاد.
استولدت الانتفاضة مع تفجرها نتيجة الاستفزاز متمثلاً باقتحام السفاح أرييل شارون حرم المسجد الأقصى بحماية »خصمه« باراك، قمة عربية »طارئة«، في القاهرة، هرع إليها القادة العرب كافة، الملوك والسلاطين والرؤساء والأمراء وصولاً الى الشيوخ، لكي يدّعوا الصلة بها فيأمنوا تداعياتها عليهم في أقطارهم التي كانت شوارعها تمور بالغضب المقدس.
تمّ تحبير بيان »قوي« النبرة، واتخذت مقررات »عملية« أخطرها توفير قدر من العون المادي للسلطة الفلسطينية لتستطيع الاستمرار في تأمين الرواتب وتعويض ما تيسر من الأضرار، وتوفير مساعدات غذائية وطبية وخيم وبطانيات وبعض الأمصال التي قد تنقذ بعض الجرحى، والكثير من خطب التأبين للشهداء أطفالاً ونساءً وشيوخاً، جلهم من اللاجئين للمرة الثالثة!
أما اليوم فإن شعب فلسطين متروك للريح: لا قمة ولا اجتماع حتى على مستوى المندوبين الدائمين في الجامعة العربية، ولا »ميزانية استثنائية« لتعزيز الصمود ولا التزام بما كان تقرر من مساهمات في »قمة الانتفاضة« التي طواها النسيان… أما التبرعات فصارت ضرباً من ضروب »الإرهاب« حتى لو اتخذت شكل الخيم والبطانيات والأمصال ومياه الشرب!
أما في السياسة فمعظم الحكام العرب باتوا يتحاشون مجرد الاتصال الهاتفي بأهل السلطة الفلسطينية، وبالذات منهم رئيسها الذي فرض عليه الرئيس الأميركي جورج بوش »الحجر السياسي« كعقوبة بديلة من قرار »الإعدام« الذي كان اتخذه أرييل شارون، وقد تكرّم فارتضى بها على مضض، مقابل أن يطوي صديقه في البيت الأبيض خريطة الطريق إلى أطلال فلسطين بجدار الفصل العنصري الذي يحفظ لإسرائيل طهارتها العنصرية!
… وبين أخبار الغد أن وزير خارجية مصر سيزور الأرض المحتلة، بعد »قطيعة« استمرت لعامين، وكان سببها المعلن »مقاطعة حكومة شارون طالما استمر في نهجه الدموي«.. وأنه سيلتقي المسؤولين الإسرائيليين، ولن يحاول (مجرد محاولة) أن يلتقي ياسر عرفات، كشرط لاستقباله في إسرائيل!
وكل تلك الشفاعات والوساطات تجري تحت لافتة »محاولة منع الحرب الأهلية بين الفلسطينيين«!
* * *
نعود إلى العراق في محنته.
إن العراقيين تحت تأثير الصدمة، بل الصدمات التي توالت عليهم منذ ما يزيد على العام، والتي توّجها الاحتلال الأميركي العسكري لبلادهم، الذي تمّ بسهولة غير مبررة، وبخسائر لا تكاد تذكر، في بلد كان رئيسه يصور لهم جيشه وكأنه الحصن الأخير لحماية الأمة جميعاً، والأمل في المواجهة الحاسمة، والتي لا بد آتية، مع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
إن العراقيين الذين ناموا مطمئنين الى قوة جيشهم المعزز بالحرس الإمبراطوري الجبار، يسانده الحزب بالمليون من أعضائه، ويشدّ من أزره »فدائيو صدام«، وتزيد من كفاءته شبكة الاستخبارات العالمية الامتداد، قد استفاقوا على كارثة سقوط البلاد تحت الاحتلال واندثار النظام، وكأنه بكل أجهزته وقواته العسكرية من كرتون، واختفاء »القائد الفرد« ومعه أركانه الذين كانت أسماؤهم تثير الرعب.
إن هؤلاء العراقيين قد وجدوا أنفسهم فجأة متروكين للريح الأميركية الإسرائيلية.
إنهم، في محنتهم، يفتقدون النصير.
لقد تخلى عنهم أخوتهم العرب، بالخوف من عقاب لا يطيقونه: بعضهم تذرع بسوءات النظام، والأكثرية تذرعت بالرعب من أن يتهموا بالإرهاب، وعقوبته الأميركية بل الدولية الإعدام بلا محاكمة، وثمة بعض المتعاطفين اعتذروا بضيق ذات اليد، إذ إنهم لا يملكون إلا عواطفهم التي لا تصد اجتياحاً ولا تحمي من الصواريخ العابرة للقارات…
إنهم في محنتهم »القومية« يفتقدون »المرجعية العربية« التي كان يمكن أن تشكل لهم الملجأ والحماية، أو »الشفاعة« سعياً إلى العقوبة بحدها الأدنى، وهذا أضعف الإيمان.
كان العراقيون بحاجة إلى »المرجعية« التي تحمي »عروبتهم« وتؤكدها.
ذلك أن العراقيين قد حُرموا أو مُنعوا من أن يكونوا شعباً واحداً خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، هذا بأقل تعديل.
كانوا موزعين على الجهات، والجهات طوائف وعناصر وأعراق، وعشائر وبطون وأفخاذ.
كان صدام قد اختزل العراق في شخصه… ولم يكن شخصه، على فرادته، ليتسع لكل العراقيين، لا بواقعهم ولا بطموحاتهم.
ولم يكن القمع الجماعي أفضل الطرق إلى توحيد العراقيين، أو إلى تحصين العراق في وجه المخاطر الخارجية، وبالتحديد منها شبح الاحتلال الأميركي الذي كان متوقعا، بل ومؤكدا ومعروف الموعد تقريبا…
وحين وقعت الواقعة التفت العراقيون فإذا نظامهم قد تهاوى فوق رؤوسهم، وإذا إخوانهم العرب مشغولون بأنفسهم عن نجدتهم… بل إن بعضهم افترض أنه قد افتدى نفسه بهم، وان الأميركيين وقد أخذوا العراق لن يلتفتوا إلى ما عداه، وانهم سيكتفون به باعتبارهم الموقع الحاكم للمشرق كما للجزيرة والخليج في آن.
وفي غياب »العرب« خلا المسرح للاحتلال الأميركي، ومعه في السر والعلن، شريكه الإسرائيلي.
***
… وهكذا سُحبت من التداول أية إشارة إلى عروبة العراق، وجرى التعامل مع هذا البلد العريق مركز الخلافة العباسية وكأنه تجمع بالمصادفة لعدد غير محدود من الأقليات العرقية والمذاهب الإسلامية والطوائف الأخرى، التي يحكمها تاريخ من الحروب الأهلية التي لم تتوقف إلا بسيادة طرف أجنبي على الأرض ومن عليها جميعا!
وكان بديهيا أن يلجأ المحتل الجديد إلى اللعبة القديمة نفسها: التهديد بالفتنة، عبر استثارة الحساسيات حول »حصة« كل طرف في كعكة النظام الجديد!
وكان بديهيا بالتالي أن تتحول بعض الأطراف العربية الرسمية إلى نافخين في نار الفتنة، وبالتحديد بين السنة والشيعة، لكي تمكّن للاحتلال أن يبقى بوصفه الضمانة ضد الحرب الأهلية، واستطرادا ضد تقسيم العراق على أساس طائفي أو مذهبي ومع التسليم بحق الأكراد في حصة الأسد من الحكم الجديد وإلا انفصلوا ليستقلوا »بدولتهم« في الشمال!
وليست الفتنة في العراق أفضل حماية ممكنة للأنظمة العربية الأخرى التي تعاني من خلل في العلاقة مع »رعاياها«.
إن الفتنة، إذا ما ذرت قرنها في بلاد الرافدين، لن تتوقف عند الحدود »الرسمية« للأقطار المجاورة لها…
وبالتالي فإن المبادرة إلى حماية وحدة العراق هي بوليصة تأمين للكيانات العربية الأخرى، التي ترتجّ الآن تحت وطأة الاحتلال الأميركي و»دبابات« الشعارات السياسية التي يحملها وبينها الديموقراطية وحقوق الإنسان.
ترى، من يجرؤ من القادة العرب على الدعوة إلى قمة طارئة لمعالجة أمر بسيط وعارض مثل احتلال العراق؟!
من يجرؤ على القول إنه معنيّ بما يحصل للعراق وفيه؟!
ومن يجرؤ على التفكير بما »بعد خراب البصرة«، التي قد خربت بالاحتلال فعلا لا مجازا؟!
ويبقى الأمر، من قبل ومن بعد، رهنا بإرادة العراقيين، بصمودهم، بقدرتهم على تجاوز المحاولات القذرة لإثارة الفتنة وتخويف كل طائفة بالأخرى، والفرز بين السنة والشيعة فتعطى الطائفة الأولى مجد المقاومة ويُشهَّر بالطائفة الثانية عبر اتهامها بأنها تسعى إلى الحكم بادعاء أنها الأكثرية ولو بدبابات الاحتلال وعلى حساب شعبها وأمتها.
إن الفتنة هي أخطر أسلحة الاحتلال وأشدها فتكا.
والعراقيون أصحاب تاريخ حافل بإحباط المشاريع المشبوهة التي تستهدف التمكين للاحتلال الأجنبي بالفتنة الداخلية.
و»ثورة العشرين« لم تشتعل في ظروف أفضل بكثير من التي يعيشها (بل يموت في ظلها) عرب اليوم، في العراق وخارجه…

Exit mobile version