طلال سلمان

من عمان الى دمشق اثنين اطول رحلة لكريستوفر

ثلاث ساعات في دمشق قد تكفي للاعتذار وإظهار حسن النية مع العجز عن الإنجاز، لكنها لن توفر جرعة الأوكسجين الكافية لإنعاش »العملية السلمية« من سباتها العميق الذي لا يختلف عن الموت إلا بالشهادة الطبية.
وإذا كان للإدارة الأميركية التي يمثلها وزير الخارجية وارن كريستوفر عذرها »النظري« في موضوع اعتراف الكونغرس بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، فما هو عذرها العملي في رعايتها الحارة للمؤتمر الاقتصادي في عمان، الذي لا يقل في عدائيته ل»العملية السلمية« (وللعرب عمومù) أو في انحيازه المطلق لمصالح إسرائيل عن قرار الكونغرس،
إنها الحرب هنا وهناك،
وهي حرب أميركية بأسلحتها وشعاراتها وقيادتها، ولو كانت إسرائيل هي المستفيدة من ثمارها السياسية (القدس) والاقتصادية (عمان)… مع التنويه بأن قرار الكونغرس يعطي، في ما يعطيه، زخمù استثنائيù للمشروع الإسرائيلي المعلن بالهيمنة على »الشرق الأوسط الجديد« اقتصاديù، مع تطريز ثناياه بالتواقيع الملكية العربية!
ولقد كانت »العملية السلمية« ضحية ثنائية واحدة، إسرائيلية: فلا بد دائمù من مزيد من التقديمات (والتواقيع) تعزيزù لموقف رابين وحكومته الراغبة في السلام، في مواجهة المتطرفين من الليكوديين والمستوطنين الأعظم تطرفù وشراسة في الاعتراض بقوة السلاح.
أما اليوم، فإن هذه العملية التي استنفدت أغراضها تمامù، وإن كان لا مصلحة لأحد في دفنها وإهالة التراب عليها ومعها مؤتمر مدريد وضماناته الأميركية، تتعرض لاستنزاف أشد على يدي ثنائية أخرى أعظم تأثيرù هي الثنائية التي كشفت عنها قضية القدس.
كنا بموقفين إسرائيليين يشكلان وسيلة »شرعية« للابتزاز العربي،
واليوم ها هم العرب أمام موقفين رسميين أميركيين يتجاذبانهم ويأخذان منهم ما تبقى لديهم من »حقوق« أو مطالب: فلا يكفي أن تكسب تفهم الإدارة الأميركية، لأن الكونغرس قد لا يرضى بما يرضيها ولا بد بالتالي من تقديم مزيد من التنازلات لأعضائه المتطرفين والمسوقين بحمى المزايدة الانتخابية إلى أبعد مما تطلبه وتريده وتقدر عليه إسرائيل.
* * *
لا أحد يستطيع رفض الاعتذار، خصوصù إذا كان تبريره العجز،
لكن في جعبة كريستوفر الكثير من »الذخائر العربية« التي يستطيع الاستشهاد بها للادعاء بأن أسباب العجز »عربية« وليست فقط أميركية ونتيجة للنفوذ الصهيوني.
أبسط ما يمكنه الاستشهاد به هو هذه »الهرولة« العربية المندفعة في اتجاه إسرائيل بأكثر مما طلب الأميركي أو طمح الاسرائيلي… وإذا كان الضغط الأميركي قد لوى ذراع بعض الحكومات العربية، فما الذي دفع بعشرات من »رجال الأعمال« العرب الى حمل أموالهم إلى الشركات الإسرائيلية ومشاريعها الاستثمارية الطموحة؟!
لن يكون الأميركي هو المحامي المؤهل للدفاع عن المصالح العربية، سواء منها العليا أو السفلى، ولا تجوز مطالبته باستدراك ما يفرط به أهل القضية وأصحاب الحقوق أنفسهم.
أما الإسرائيلي فلن يرفض الجوائز العربية وهي تنهال عليه بلا طلب، وفيها النفط والغاز والمياه والأموال ومهندسو الكومبيوتر واليد العاملة الرخيصة وشبكات الطرق والجسور وأمداد إضافية لشبكات الكهرباء والهاتف وزبائن إضافيون لمنشآته السياحية.
* * *
مثيرù سيكون هذا اللقاء الاستثنائي، ومن خارج البرنامج، بين القيادة السورية ووزير الخارجية الأميركي، يوم الاثنين المقبل،
ستكون فرصة ممتازة أمام كريستوفر ليثبت قدرته كمحام يهمه أن يكسب الدعوى، بمعزل عما يمكن أن يصيب القضية وأطرافها، ولا سيما الضحايا منهم.
وبالتأكيد فهو قد طلب أن يجيئها لأنه مهتم بأن تسمع منه ما قد يخفّف من آثار ما سمعته عنه، بالإدارة في بلاده التي استحقت وسام النبي إسحق، والكونغرس الذي استحق أن يدخله إسحق رابين ليهنئه على قيامه »بواجبه« ازاء إسرائيل.
أما دمشق التي تمّ فيها ابتداع مبدأ »شعرة معاوية« فليست بحاجة لأن تقول الكثير، لأن الأمور باتت أوضح من أن تحتاج إلى مطوّلات في تفسيرها أو إلى أعذار في تبريرها.
لقد ذهبت إلى المفاوضات وهي تعرف أنها »الحرب«، ولو كان هدفها النهائي »السلام«،
وهي تدرك بالتأكيد أن الحرب ستطول وستعنف بقدر ما يبتعد ذلك »السلام« وتتلاشى الآمال بقيامه كحقيقة ثابتة فوق الأرض المشبعة بدماء الرجال،
إن مشروع »السلام« الأصلي قد تهاوى مثخنù بجراحه،
ولكن دمشق لن تكون من يعلن وفاته، تاركة هذا »الشرف« للذي ذهب إلى عمان ليشتري شيئù من صدفيات القدس من شيلوك الاسرائيلي، بذريعة تدعيم اقتصاده الخرب في ظل سياسته المتهالكة،
الطريف أن أعذار هؤلاء جميعù ممن لم يحاربوا قط تتلخص في أنهم متعبون جدù وقد عانوا من الحرب فوق ما يطيقون، ولذلك قبلوا هذا السلام المهين لأنه العرض الوحيد الذي قدمتهم إليهم »السوق«.
وقرار الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل مرشح لأن يكون نقطة البداية للحرب الجديدة المفتوحة أكثر منه نقطة ختام للحرب التي خسرها العرب، لأنهم لم يجتمعوا عليها مرة واحدة، ولم يخوضوها بمثل القدرات والكفاءات التي ينفحون بها الآن أصدقاءهم في الكونغرس الأميركي أو في مؤتمر عمان الاقتصادي الاسرائيلي.
في أي حال فرحلة كريستوفر الاثنين من عمان إلى دمشق ستكون واحدة من أطول الرحلات في حياته، خصوصù أنه سيعبر أجواء القدس الشريف وسيبقى »أسيرها« في دمشق… كائنة ما كانت أعذاره والتبريرات.

Exit mobile version