طلال سلمان

من عراق الى سعودية وفلسطين تبرئة احتلال اوطان اغتيال فردي

أما وقد هدأت نفوس اللبنانيين بعد قلق، واسترخت أعصاب المسؤولين الكبار بعد سلسلة من الحروب أكلت (معهم!) الأخضر واليابس وكادت تدمر ما تبقى من سمعة البلاد ودولتها،
أما وقد تدخل من بيده الأمر فعاد مجلس الوزراء إلى الانعقاد في جلسة امتدت يومين متصلين، وأرجأ ولو إلى حين الموعد المقدر »لتصفية« هذه الدولة التي ظهرت عليها علامات الشيخوخة قبل الأوان، فهجرها أبناؤها إلا قليلاً، وفسدت إدارتها بدءاً برأسها، وانطفأت فيها الكهرباء إلا لماماً مع أنها الأغلى كلفة في الكون، وتعاظمت عليها الديون حتى لم يتبق من علاج إلا في المزيد من الديون وإرجاء الوفاء بأقساطها الثقيلة إلا بأثقال جديدة تمتد فوائدها المركبة إلى جيل لم يولد بعد،
… أما وقد اتفق من بيدهم الأمر على إخفاء خلافاتهم المتفجرة تحت السجادة، ولو إلى حين، وظهروا في الصور »الرسمية« مبتسمين وقد »مدّدوا« للأزمة، و»جددوا« في أساليب المواجهة بحيث يلتبس الأمر على الناس فلا يعرفون هل هم أمام نهايات ما لا ينتهي أم أمام بدايات ما لا يبدأ إلا بإذنه…
أما وأن لبنان في »العناية الفائقة«، ولا خطر داهماً على سلامته، فلنلتفت إلى ما حولنا من الكوارث التي تسبّب بها »سفاحون« ينتسبون إلى العروبة وهي منهم براء، ويدعون أنهم إنما جاؤوا لبعث الدين الحنيف والإسلام منهم براء إلى يوم الدين.
* * *
قبل أسابيع قليلة تباهى المدعو »أبو مصعب« بقطع رأس مواطن أميركي في مكان ما من بغداد، بسكين أو ساطور، في حضور عدسات التصوير التي نقلت وقائع هذه الجريمة النكراء إلى أربع رياح الأرض…
وقبل أيام قليلة نفذ المدعو »عبد العزيز المقرن« في الرياض، جريمة قتل مشهودة ومصورة ومعدة للتصدير بحق مواطن أميركي لا نعرف من أمره شيئاً وليس من تهمة موجهة ضده إلا جنسيته.
وهكذا نجح »أبو مصعب«، ومن معه، في تزوير قضيته الوطنية والقومية والدينية، وتحول من مقاتل من أجل حقه في وطنه إلى قاتل لا يميز ولا يفرّق بين »إنسان« يحمل الجنسية الأميركية، بغض النظر عن وظيفته، وبين احتلال أميركي بقوة السلاح لبلد عربي، كان مرفوضاً منذ اللحظة الأولى، وهو الآن مرفوض وغداً مرفوض ولا بد من مقاومته بكل أشكال المقاومة التي ليست من بينها جرائم القتل الفردي بدم بارد، لأميركيين عزل صادف وجودهم في المكان، وتيسّرت فرصة احتجازهم ومن ثم المساومة عليهم قبل قتلهم العلني إعلاناً بالإفلاس المطلق للقاتل الذي يتبدى عارياً ومكشوفاً: بلا قضية!
وفي السعودية نجح »المقرن« بجريمته المتلفزة في تزكية النظام الذي يدّعي معارضته.. إذ اختار أن »يضرب« بينما النظام المأزوم يعلن ويباشر إعادة صياغة علاقته مع »الرعايا« الذين أقرّ لهم بحقوق المواطنين، معترفاً لهم بحق الرأي، ليدفع عن نفسه تهم الانغلاق، سياسياً، والتزمت دينياً، بل ومذهبياً بل وتحزباً داخل السلفية، وينفي »وهابيته« ليبرئ نفسه من تهمة التطرف، ويتجنب »الديموقراطية« متحولاً إلى الشورى، معترفاً بالمرأة شريكاً، ولو من خلف ستار ومن دون الحق ببطاقة هوية مستقلة وبالتالي من دون الحق بالتصويت.
وحين ضرب »المقرن« كان هذا النظام يتعرض لضغوط أميركية شديدة وصلت إلى حد تحريض أهله عليه، والتلويح بتقسيم المملكة التي قامت بالسيف، على أن يبقى النفط لواشنطن إلى أبد الآبدين…
إن هذا التوغل في القتل للقتل، يقتل أول ما يقتل »القضية«، ويعيد الاعتبار إلى الأعداء والخصوم جميعاً، ليس فقط من خلال تصويرهم كضحايا، بل كذلك من خلال إعلان اليأس من الذات، والعجز عن المقاومة، والقصور في امتلاك مشروع سياسي يمكن أن يدفع عن هذه الأمة أبشع ما ترمى به من اتهامات، وبينها أنها مجرد »وهم« أو »ادعاء«، وأنها ليست حتى في أحلامها واحدة، ولا هي في تصوراتها لغدها قادرة أو جديرة بالحياة.
فقضية »المقرن«، إن كان له من قضية، هي مع نظامه ومع الاحتلال الأميركي (إن هو ربط بينهما) وليست مع ذلك المواطن الأميركي الذي رمته المقادير، مصادفة، أمام رصاصاته القاتلة لقضيته المدعاة.
و»أبو مصعب« قضيته، إن كانت له قضية، مع الاحتلال الإسرائيلي وهو على مرمى حجر من بلدته بالأردن، لو أنه كان يطلب »الجهاد«، أو مع الاحتلال الأميركي الذي يدعي أنه ذهب لقتاله في العراق، وليس مع مواطن أميركي أعزل استفرده فاعتقله ليحز رأسه أمام عدسات التصوير وكأنه يثأر من عشيرة منافسة في بادية الأردن…
لقد »أفادت« هاتان الجريمتان المتلفزتان في نقل العرب (والمسلمين عموماً) من موقع الضحية وهم فيه فعلاً أصحاب القضية العادلة، المناضلين من أجل حقوقهم في أوطانهم، إلى موقع عصابات القتل الوحشي بالتعصب والتخلف ونقص الجدارة في أن تكون لهم أوطان ودول ذات دساتير ونظم ديموقراطية.
بالمقابل فلقد هبّ النظام الأميركي من قمة القيادة فيه، ممثلة بمؤسساته الديموقراطية، والكونغرس منها في الطليعة، يبرئ نفسه من تهمة التعذيب الذي مارسه بعض جنوده ضد بعض المعتقلين في سجن أبي غريب، قرب بغداد.
ونجح النظام الأميركي في تبرئة نفسه، كنظام وكدولة وكشعب، عبر حصر التهمة المستنكرة بذلك النفر من ضباطه وجنوده، ومعاقبة قائدهم الجنرال.
لقد أدان الجنود وبرّأ النظام، وأدان الجنرال وبرّأ الوزير، وأدان الممارسة وبرّأ »المهمة«.
وهكذا أعيد الاعتبار إلى جيش الاحتلال الذي سرعان ما طهّر نفسه من مشوّهي مهمته النبيلة، وليس فقط إلى الديموقراطية الأميركية، بمؤسساتها العريقة، اليقظة والمتنبهة والقادرة على وقف الغلط ومحاكمة المسؤولين، مهما علا شأنهم، وتوقع العقاب عليهم.
»المقرن« و»أبو مصعب« وأمثالهما كادوا يدينون أمة بالوحشية والتخلف، وكادوا يبرّرون فرض الوصاية عليها وإصلاح أمورها وتهيئتها لتستحق أن تكون لها دول…
في حين أن دولة الاحتلال استطاعت أن تطمس الجريمة العظمى، أي احتلال العراق، بمحاسبة بضعة جنود عن واحد من أبسط إفرازات الاحتلال.
* * *
ترى أين كان »أبو مصعب« و»المقرن« وأسامة بن لادن في زمن حكم الطغيان في العراق؟!
وأينهم من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي ينهش في لحمها، في بياراتها وحقول الزيتون والأرض الزراعية عموماً، ويعزل كل قرية عن الأخرى، ويحصر كل مدينة خلف بوابة محروسة بالنار، ويلتهم أحياء القدس واحداً اثر الآخر بجدار الفصل العنصري؟!
إن ساحات الجهاد مفتوحة لمن يريد الجهاد حقاً،
لكن أمثال هؤلاء يقدمون للاحتلال الإسرائيلي خدمات لا تقدّر بثمن: إنهم يطمسون جرائمه بقتل شعب ومصادرة أرضه، باغتيال »إنسان« أعزل تمكنوا من احتجازه مصادفة، ثم أتوا بالكاميرات لقتله علناً وبالقصد.. باعتباره حليفاً لإسرائيل!
وأمثال هؤلاء يشوّهون العروبة والإسلام أعظم تشويه، وتكاد جرائمهم تبرر الاحتلال، أو توفر له أسباباً تخفيفية سواء في العراق أو في فلسطين.
إنهم شركاء للطاغية صدام حسين، يكملون »مهمته« ويتابعون »رسالته«.
لقد اختار الطاغية وريثه: الاحتلال الأميركي، إذ إن حكمه المديد قد شوّه شعارات العروبة (والإسلام) حتى تدميرها، وهو قد أصاب الوطنية في الصميم، وترك العراق أمام الاحتلال مزقاً مبعثرة و»عناصر« مقتتلة.
فهو قد ضرب الأكثرية العربية المطلقة بتمزيقها داخل إسلامها الجامع إلى طوائف ومذاهب، الشيعة منها غير السنة، فإذا بالكرد أكثرية ثالثة، أو أقلية كبرى لها حق الفيتو.
.. وإذا موضوع الصراع هو الحكم لا الوطن، وصارت »الحصة« أهم من وحدة البلاد، مما يهدد فعلياً كيانه السياسي.
أما في فلسطين، حيث تستعصي الوطنية على التذويب، فيحاول الاحتلال الإسرائيلي الاستعانة بالكيانيات المجاورة لتتولى بالنيابة عنه، ولحسابه، مهمة تفتيت المسؤولية عن الأرض التي يتولى الاحتلال تفتيتها لابتلاعها، فيحاول إغراء الحكم المصري بأن يأخذ نصيبه منها، ويمنح الحكم الأردني نصيباً آخر، فإذا فلسطين قد اختفت، أرضاً وشعباً، وإذا غزة جزيرة محاصرة بقوات الاحتلال الإسرائيلي، وقد حصنت نفسها بسور »مصري« يترك القطاع كله رهينة في يده.
إن إسرائيل تحاول أن تستثمر الكيانية المصرية في حمايتها، بينما كانت مصر، وستبقى، عدوها الأقوى طالما حفظت وطنيتها بعروبتها.
ومن الصعب أن نتصور الجندي المصري، الذي طالما قاتلته إسرائيل، حارساً للاحتلال من وطنية الفلسطيني.
مع ذلك فإن إسرائيل تسعى لإنجاح مثل هذه الخديعة، بالاتكاء على الإدارة الأميركية، وضعف الأنظمة العربية وخوفها من الجميع: من شعبها أولاً، وإسرائيل ثانياً، والإدارة ثالثاً، ومع هؤلاء أو ربما قبلهم موجة الردة السلفية القاتلة التي بين رموزها »المقرن« و»أبو مصعب« وبن لادن وأمثالهم.
* * *
إن هؤلاء وأمثالهم ليسوا مقاتلين باسم الإسلام ومن أجله. إنهم يقتلون الإسلام!
وهؤلاء وأمثالهم ليسوا استشهاديين من أجل قضية عادلة تتمثل في تحرير الأمة وإرادتها. إنهم ينحرون القضية ويذبحون الأمة أمام كاميرات الفضائيات لتكون الإدانة عالمية.
ولعل العراقيين والسعوديين والجزائريين و… يرددون اليوم تلك الكلمة المأثورة: اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم.

Exit mobile version