كان لقائي الأول بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب في غابة الأرز في لبنان قبيل عرض المسرحية الغنائية “هالة والملك” (فيروز / الأخوين رحباني) في صيف 1967. كنت أجلس في الصف الثالث خلف مقعده بالضبط وهو في الصف الثاني. جلست في الصفوف الأمامية لا بصفتي الشخصية وإنما حصلت على البطاقة من نسيب لي ذي مكانة في الدولة حالت ظروف دون ذهابه فأهداني بطاقته.
في كل الأحوال كنت سعيدا للغاية لأنني التقيت بالموسيقار الكبير للمرة الأولى. صافحته وعبّرت له عن إعجابي الفائق به ملحنا ومطرباً. شكرني بتهذيب وانتهت المقابلة. كان عبد الوهاب قلقاً بانتظار أن تغني فيروز لأول مرة لحنه لقصيدة “سكن الليل”. وجرت العادة على أن يسبق عرض المسرحية تقديم أغنية نصها من إحدى قصائد جبران خليل جبران المولود في بلدة بشرّي الواقعة على تخوم غابة الأرز.
لكن الجمهور تفاجأ يومها بقصيدة أخرى كتبها ولحنها الأخوان رحباني استهلت الحفل. ليلتها غنت فيروز لأول مرّة “زهرة المدائن”. استقبلها الجمهور بحفاوة غير مسبوقة. طبعا الأغنية رائعة كلاما ولحنا وأداء. وكان للظروف السياسية آنذاك تأثير خاص. لم تكن الجراح التي خلفتها نكسة حرب حزيران قد التأمت بعد. وكان الغضب العربي بحاجة إلى من يعبّر عنه، فجاءت الأغنية استجابة لذلك. كانت فيروز تنشد “الغضب الساطع آتٍ” وكان الآلاف يردّون “آتٍ” ويهدر صوتهم فوق غناء الكورس.
بعدها رحل الكورس وعادت فيروز وحدها إلى المنصة لتغني “سكن الليل”. وكان الجمهور ما زال منتشيا بزهرة المدائن وأصداء التصفيق الراعد تتردد في أرجاء الغابة. طغى ذلك على أغنية “سكن الليل” فلم تحظَ بما تستحقه من إعجاب. لم ينتبه الجمهور إلى جمالها. وكنت أرى عبد الوهاب يشدّ أطراف العباءة التي كان يرتديها بعصبية. وكان ردّ فعله بديهيا ومبرّراً. والحق يقال إن الأغنية حين أذيعت فيما بعد في ظروف مختلفة، حظيت بالإعجاب الكبير ونال لحن عبد الوهاب الرائع ما يستحقه من حفاوة. وكان سيلقى الحفاوة نفسها، لو قُدّم للناس ليلتها قبل “زهرة المدائن”.
بعدها التقيت بعبد الوهاب مرتين عابرتين. مرة في تلفزيون لبنان وكان يسجل مقابلة مع ليلى رستم، ومرة في زحلة يوم حضر المهرجان الشعري الذي أقيم لمناسبة تنصيب تمثال أحمد شوقي في كازينو عرابي تكريما لأمير الشعراء في “جارة الوادي”. ظللت أتذكر اللقاءات الثلاثة وحتما هو نسيها!
في باريس في منتصف ثمانينات القرن الماضي سعدت بلقاءات كثيرة معه. تعددت الجلسات ودار الحوار مطوّلاً. كان يقيم في فندق انتركونتننتال طوال أشهر الصيف، ضيفا على الأمير السعودي بدر بن عبد العزيز. مثله مثل الضيوف الآخرين: وردة الجزائرية، الممثلة السينمائية ليلى فوزي وزوجها المذيع جلال معوض، الصحافي محمد بديع سربية، والفنان محمد سلمان الذي عرفني على الموسيقار الكبير. أخبرني أن عبد الوهاب “غير ملزم بالبقاء في مجلس الأمير مع الضيوف الآخرين حتى آخر السهرة، فكان ينسحب وينام مبكرا. وبالتالي يستيقظ قبل الآخرين، ويهبط إلى صالون الفندق حوالي الظهر ويمكث وحده. فانتهز الفرصة وحاوره كما تشاء”.
وفي الجلسة الأولى أثبتت له أنني معجب أصيل بألحانه وبأدائه، مع أمثلة، جعلته يشعر بأنني لا أجامل لكنني أمتدحه بمعايير فنيّة. فارتاح لمجلسي وربحت فرصة اللقاء المتكرر به.
حقيقة كنت مقتنعا ـ وما زلت ـ بأن محمد عبد الوهاب هو موسيقار القرن العشرين. زكريا أحمد ورياض السنباطي وبليغ حمدي ملحنون كبار أيضا. وكل منهم أبدع بلون معين. زكريا في التطريب، والسنباطي في تلحين القصائد وبليغ في الإيقاعات الشبابية. وعبد الوهاب فقد أبدع في كل هذه الألوان. أطرَبَ مثل زكريا. لكن لا أتخيل زكريا قادراً على تلحين “وفي يوم صحيت على صوت فرح” (نجاة) أو “اسهار بعد اسهار” (فيروز) أو “جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ببيروت” (صباح) أو “ست الحبايب يا حبيبة” (فايزة أحمد).. وهو لحّن لوردة ولعبد الحليم حافظ مثل ما لحّن لهما بليغ حمدي. لكن بليغ لم يلحن قصائد باللغة الفصحى سوى عدد قليل.
كان عبد الوهاب يحبّ المشي ويمارسه في الممر الطويل أمام غرفته، وأحيانا في الصالون. رافقته مرّات. وأخبرني أنه يخشى البرد الذي يمكن أن يغشى باريس في أوج الصيف. ذات مرة أرسلني استطلع حالة الطقس فأخبرته أنه ربيعي والسماء صحو. ذهب مشيا على الأقدام من الفندق حتى ساحة الأوبرا (المسافة لا تتجاوز الكيلومتر) وطلب الجلوس في المقهى الشهير “كافيه دو لابيه” Café de la paix قال إنه كان مقهى أحمد شوقي المفضّل وإنه جلس فيه أول مرة برفقته، وكان شوقي اصطحبه إلى باريس في مطلع العشرينات. وحكى لي عن عزّ حيّ الأوبرا آنذاك حيث تنتشر المسارح والمطاعم والمقاهي والأندية الليلية في البولفارات العريضة. قال كان حيّ السهر أكثر من الشانزيلزيه.
وأخبرني عن تصوير فيلمه الأول “الوردة البيضاء” في باريس سنة 1933 لضمان جودة الصورة والصوت. وكان من أوائل الأفلام العربية الناطقة. ولم يكن شوقي موجوداً إذ كان توفي قبل سنة. وكان الفيلم من إخراج محمد كريم وتم تنفيذه في ستوديو توبيس Tobis. أخبرته أنني خريج معهد السينما بالقاهرة وكريم كان العميد في سنتنا الدراسية الأولى. قال عبد الوهاب: “سمّيناه كريم هتلر! كان انضباطيا وسلطويا زيادة عن الحدّ ودارس في ألمانيا وزوجته ألمانية”. قلت: “من كريم عرفت أن كلمة فِرْكِش التي يقولها المخرج في ختام يوم العمل أصلها ألماني “فيرتيش” يعني انتهى.. سمعوها من المخرج الألماني فريتز كرامب ومصّروها بقولهم فركش”! ضحك وقال: “كنت فاكرها من فركشه.. يعني كل واحد يروح لحال سبيله”.
ظل أحمد شوقي الأب الروحي والمثل الأعلى لعبد الوهاب طول حياته. منه تعلم ما لم يتعلمه في المدرسة التي غادرها مبكرا. أخبرني أن شوقي أهداه مجموعة أسطوانات فيها سمفونيات عمالقة الموسيقى من بتهوفن وموتسارت وشوبان وسواهم. وكان يستمع إليها ومعه محمد القصبجي ثم يعزفان معا السمفونية على العود! هكذا تعلّم التراكيب الموسيقية الكلاسيكية. فإذا أضاف المرء المصدرَ الآخر الذي نهل منه عبد الوهاب، أي تجويد القرآن وقد تعلمه صبيّاً وأتقنه، فهم الأسس التي بُنِيت عليها عمارة عبد الوهاب الموسيقية.
وحكى لي عبد الوهاب أنه ارتجل لحن “جارة الوادي”. كان برفقة أحمد شوقي يوم زار زحلة سنة 1927 ومعه القصيدة. ولم يكن شوقي يلقي قصائده بل يكلّف أحداً بذلك. وغالبا كان الصحافي فكري أباظة. وكان فكري الرفيق الآخر، “وكان معنا في الفندق يراجع قصيدة شوقي التي سيلقيها أمام محفل أدباء زحلة. كان يردد الأبيات بصوت عالٍ ليتمّرن على الإلقاء. وفورا لحنتُ ثمانية أبيات منها. وقال شوقي “فكرى ح يقرا القصيدة وعبد الوهاب ح يغني الأبيات”. (اللحن في أغلب الأبيات على نهج التجويد).
وظل أحمد شوقي مرجعيته في النقاش وكان يستشهد بأبيات له وأقوال. سألته مرّة بماذا يردّ على الذين اتهموه باقتباس ألحان غربية فأجاب: “كان أحمد شوقي يقول لي في الشعر العربي فيه حاجة اسمها التضمين”.. قلت: في الشعر نضع الشطر المقتبس بين قوسين، فأين تضع القوسين في الموسيقى؟ أجاب بعفوية: مطرحهم! ضحكت وضحك واعتبر الضحك إجابة.
ومرة سألته عن اقتباساته من الموسيقى العربية، وقلت له إن لحنه لبيت “يا رايح للّي فايت لي عيوني سهرانة ولا داري” الذي تغنيه نجاة الصغيرة في “القريب منك بعيد” مشابه كثيرا للحن فيلمون وهبي لفيروز في أغنية “مرسال المراسيل” في البيت الذي تنشد فيه “بتجيب لي منه تذكار شي ورقة وشي صورة” فقال: “مفيش شبه.. يمكن تأثر غير مباشر”. وأحسستُ أنني سأفشل إذا جادلته موسيقيا فلزمت الصمت. وخفتُ أن يستثقل دمي فقلت له، وأيضا وأنا أعني ما أقول: “أنت عندك آلاف الألحان يا أستاذ.. لو أحصينا ما يقال عن اقتباساتك فهي لا تتعدى اثنين بالمئة من إبداعك.. يكفيك الباقي.. أنت إمام الموسيقى العربية”.
ندمت فيما بعد لأنني لم أحمل معي آنذاك جهاز تسجيل. لكن ذاكرتي، وما زال بها جهاز تسجيل يشتغل، تسعفني الآن على تذكّر بعض آراء عبد الوهاب.
مرّة سألته عن عادة أم كلثوم في تغيير بعض كلمات الأغاني فأجاب: هي غيّرت الكلمة الأولى في “إنت عمري”. حوّلتها من “شوقوني عينيك” إلى “رجعوني عينيك” وكان تغييرا موفقاً وافق عليه فوراً كاتب الكلمات أحمد شفيق كامل. فألقيت السؤال التالي: “حسنا.. لماذا في أغنية الأطلال غيّرت “فيه نبلٌ وجلال وحياء” وجعلتها “فيه عزٌّ وجلال وحياء”. الفرق بين نبلٌ وعزّ واهٍ..؟” قال: “هو مش لحني زي ما انت عارف.. ده لحن السنباطي. لكن بصراحة ممكن أفهم السبب. عزٌّ ألطف في الغناء. جرّب تلفظ نبْلٌ.. الباء الساكنة في الوسط غير مريحة.. المدّ في “عزّ” أفضل”.
وأضاف: “التغيير الأكبر حصل في قصيدة جورج جرداق “هذه ليلتي”. من ألحاني وأداء أم كلثوم. جرداق كان كاتب المطلع: “هذه ليلتي، وهذا العودُ / بثّ فيه من سحره داوودُ/ فاملأ الكأسَ واسقنيها وهاتِ/ كلّ ما طاب من فتون الحياةِ”. أم كلثوم اعترضت على “داوود”. وجرّب جورج جرداق ان يقنعها. ذكّرها إنها غنّت “جرت على فم داوود فغناها” في “سلوا كؤوس الطلا”.. وحتى أنا غنيت “وهل ترّنم بالمزمار داوود؟” في “تلفتت ظبية الوادي”.. وكان ردّ الست: “أيوه. احنا المسلمين والمسيحيين نجلّ النبي داوود. وصحيح غنينا اللي غنيناه. بس أيامها ما كانش فيه إسرائيل ولا نجمة داوود”.. وعلى هذا الأساس غيّر جورج جرداق المطلع وأصبح “هذه ليلتي وحلم حياتي/ بين ماضٍ من الزمان وأتِ/ والهوى أنت كله والأماني/ فاملأ الكأس بالحنان وهاتٍ”. وقال: “كمان قصيدة “أغداً ألقاك” غيّر فيها الشاعر السوداني الهادي آدم كثير بناء على طلبنا أنا وأم كلثوم”.
وكنت أعرف عن خوف عبد الوهاب من السفر بالطائرة. سافر بالسفينة دائما إلى بيروت، أو إلى مرسيليا ومنها بالقطار إلى باريس. وتعذّر عليه ذلك إثر توقّف الرحلات البحرية، فاضطر إلى الطائرة. وفي اليوم الأخير من إقامته الباريسية ذهبت لأودعه. كان يستعد لمغادرة الفندق وهو في حالة هلع. يرتجف ويردد آيات من القرآن الكريم. يحيط به القنصل المصري وأركان السفارة ويأخذ اثنان منهما بيديه ويرافقانه إلى السيارة التي ستوصله إلى المطار. سلّمت عليه فاكتفى بإيماءة برأسه وقدّرت ظروفه.