طرح عليّ كثيرون اسئلة متنوعة عن الفنان الكوميدي اللبناني الراحل حسن علاء الدين الشهير بشوشو بسبب قربي منه، إذ كتبت له 12 مسرحية ومسلسلين للتلفزيون وسيناريو وحوار فيلمين سينمائيين، فضلاً عن الصداقة الوثيقة التي ربطت بيننا. وكانت الأسئلة من نوع: “هل صحيح أنه أودع السجن؟” أو “كيف تفسر الديون الكبيرة ومسرحه ناجح للغاية وممتليء يوميا؟” أو “لماذا لم ينجح في السينما كما نجح في المسرح؟”..
لم يصب شوشو النجاح الكبير في أدواره السينمائية والتلفزيونية كمثل التألق الذي سطع به على خشبة المسرح لأن تجربته أثبتت أنه ابن شرعي للمسرح. والمسرح المكتظ بالجمهور. أمام الكاميرا في السينما أو التلفزيون حيث لا جمهور، كان شوشو يؤدي أدواره جيدا، لكنه لم يبلغ الذروة لأن الجمهور، عنصر التفاعل الذي يشحن موهبته بالطاقة، غائب. وكان المسلسل التلفزيوني “المشوار الطويل” استثناء، وتفسيره أن دوره فيه أقرب إلى المأساة منه إلى الملهاة. وفي مثل هذا اللون لم يكن بحاجة إلى أنفاس الجمهور.
وكان شوشو أنشأ “المسرح الوطني” سنة 1965 بالتعاون مع نزار ميقاتي مخرجا وكاتبا، بعدما أبعده محمد شامل (مكتشفه) عن برنامجيه التلفزيوني والإذاعي بعد زواجه من فاطمة محمد شامل ولم يكن الوالد راضياً عن ذلك الزواج. كان مسرحا يوميا مع فرقة بطلها شوشو عناصرها التمثيلية ثابتة وتقدم للجمهور الكوميديات الراقية. وهو المسرح اليومي الوحيد في تاريخ المسرح اللبناني. (حاليا يعتبر مسرح جورج خباز في بيروت الأقرب إلى اكتساب صفة المسرح اليومي).
في بداية عملي في الصحافة كنت أكتب في “ملحق النهار”. وفي صيف 1967 طلب مني رئيس التحرير أنسي الحاج أن أشاهد مسرحية “الدكتور شوشو” وأكتب عنها. ليلتها تعرفت على شوشو ونزار ميقاتي. أصبحت صديقا ومدافعا عن هذا المسرح. نزار ميقاتي كان كثير الأسفار، أما شوشو فكنت ألتقي به كل ليلة في مقاهي الروشة في جلسات تبدأ بعد نهاية العرض المسرحي وتمتد حتى الفجر، ويشارك فيها معظم الأحيان المخرج محمـد سلمان وفي بعض الأحيان الكاتب والصحافي ذو الفقار قبيسي (عمل شوشو معه في البنك السعودي) والمحامي الكاتب المسرحي أسامة العارف (كان وكيل شوشو).
وفي صيف 1970 انتهت الشراكة بين شوشو ونزار ميقاتي. ظل شوشو في المسرح وعاد نزار إلى قواعده الإذاعية، وكان مدير البرامج في إذاعة لبنان ومنتجا لبرامج لحساب الإذاعات الخليجية. بعد هذا الانفصال قدّم شوشو مسرحية “اللعب ع الحبلين” اقتبس نصّها ريمون جبارة من مسرحية لغولدوني وأخرجها برج فازليان. كان الافتتاح ليلة 28 أيلول 1970. كنت حاضرا بصفة متفرج وناقد. في الفصل الثاني بدأ خروج الناس من القاعة. لم يكن شوشو على الخشبة. ظننت أن مكروها أصابه. صعدت إلى مدخل المسرح لأستفسر عما جرى فعرفت أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد رحل وأن بيروت اشتعلت لدى انتشار الخبر.
في الكواليس لم يكن شوشو يعرف ذلك النبأ. لكنه عرف من فريال كريم أن الجمهور يخرج من الصالة، فالتفت إلى ابراهيم المرعشلي وسأله “قولك غلطنا لأننا تركنا نزار؟”. هذا التفصيل يتضمن خلاصتين: لم يكن شوشو يطيق أن يُعرض الجمهور عنه، وهو كان يحترم المخرج والكاتب.
وكان شوشو يحب استضافة نجوم الشرف. في “اللعب ع الحبلين” كانوا: نبيه أبو الحسن وتيودورا راسي وفريال كريم والأخيرة استدامت في الفرقة من العناصر الثابتة. في المسرحية التالية “كافيار وعدس” (اقتباس وجيه رضوان) كانت بديعة مصابني ضيفة الشرف، وهي عادت إلى الخشبة بعد غياب عقود، وشعرت بفرحة لا توصف وهي تقابل الجمهور من جديد وتنتشي من رنين التصفيق. والمطرب عصام رجي (في “وصلت للـ 99”) والنجمين المصريين نيللي وحسن مصطفى (في “الدنيا دولاب”) والنجمة المصرية هالة فاخر (في “جوه وبرّه” و”فوق وتحت”).
عاشق المسرح هو. يحضر إلى الخشبة قبل ساعتين من العرض، كأنما تراب الخشبة يمدّه بالأوكسجين. يعمل ماكياجه بنفسه. يطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام، ثم ينطلق إلى الخشبة، وحين يسمع ضحكات الجمهور وتصفيقه ينسى همومه النفسية وآلامه البدنية.
تطور أداؤه من مسرحية إلى أخرى حتى استطاع مسرحه أن يطور نوع الكوميديا التي يقدمها. وأصبح مسرحا شعبيا لا من حيث إقبال الجماهير فحسب، بل كونه أصبح منبرا شعبيا. وبلغت عروضه الذروة مع مسرحية “آخ يا بلدنا”. في التمثيل، ساعده جسم مرن طيّع يمكنه أن يؤدي الكوميديا الحركية والإيمائية، وصوت يعرف كيف يتلاعب به. وتقنية رفيعة في الأداء الكوميدي مقرونة بميزان يقيس ضحك الجمهور ولا يخطيء. لا يجعل الضحكة تطول فيبرد الجو ولا يقتلها في مهدها فيكبح اندماج الجمهور. وكان اسمه كفيلاً بجذب الجمهور لمدة شهرين في قاعة تتسع لنحو 500 مقعد. بعدها يطول عرض المسرحية بحسب نوعيتها. وفي 1972 تغيّر اسم المسرح الوطني وصار “مسرح شوشو”. قبلها كتبت غادة السمّان مقالا ذكرت فيه أنها طلبت من سائق التاكسي أن يوصلها إلى المسرح الوطني فلم يعرف العنوان، وحين قالت له “عند شوشو” ضحك وأوصلها إلى باب المسرح!
اشتهر بأنه يضّمن مسرحياته “لطشات سياسية” تتضمن نقداً لحالة راهنة. وكان الجمهور يطرب لهذه النكات ولم يكن السياسيون ـ موضوع الانتقاد ـ ينزعجون، لأن النقد مغلف بالسخرية. وذات يوم انطلقت شائعة مفادها أن شوشو ألقى نكتة (بدي سباط فرعته فرنجية شريطه كامل يصائب ع إجري) وهي ليست بنكتة بل شتيمة. والقصة مفبركة من أساسها. لكن الشائعة انتشرت كالنار في الهشيم ورافقها أنه اعتقل بسببها. إلى حدّ أن صديقا اتصل به في مكتبه وسأله “صحيح إنت معتقل؟” فأجابه “ما إنت عم تطلبني ع مكتبي”!.. رافقتُ شوشو لزيارة الرؤساء الثلاثة. في القصر الجمهوري استقبلنا كارلوس خوري مدير عام الرئاسة وتفهم الأمر وقال إنه سيخبر الرئيس فرنجية. في مكتب كامل الأسعد بادره رئيس المجلس النيابي قائلا “إبن خضر الجوني يشتم إبن احمد الأسعد؟” على أساس أن أبا حسن كان من الناشطين في حزب “النهضة” مع أحمد بك. شرح شوشو له أن الأمر ليس سوى شائعة. وفي منزل صائب سلام كرر شوشو الشرح وقال لأبي تمام ممازحا “أولا هاي مش نكتة. وأنا بنكت وما بشتم. وبأكد لك من هلق، بالمسرحية الجايي مش رح وفرّك”!.. وضحك صائب بك وقدم له سيجارا كوبيا. وما زلت إلى الآن بعد ما يزيد عن 40 سنة أسمع من يؤكد لي أن “شوشو قالها وانحبس عليها” والبعض يقسم أنه سمعها بنفسه!! وحين أسأل متحديا أن يذكر لي محدثي متى سمعها وفي أي مسرحية؟ لا أحصل على جواب!
وكيف يمكن تفسير الديون والمسرح يغص بالجمهور كل ليلة؟ الديون رافقت التأسيس وبالفوائد الباهظة. لم يكن شوشو يملك قرشا عندما أسس المسرح ولم ينجح في الاستدانة من المصارف فلجأ إلى المرابين وكانت الفوائد باهظة. 5% في الشهر! ومع بداية النجاح المسرحي بدأت مشكلة الديون، ولسوف تكبر كمثل كرة الثلج وتتراكم، حتى تغدو أحد الأسباب التي قصفت عمر الفنان القدير مبكرا.
وكان الممثل المصري محمد الطوخي قد اشترى حصة نزار ميقاتي في المسرح. إيراد شباك التذاكر يذهب نصفه إلى صاحب القاعة والنصف الآخر إلى شوشو وشريكه محمد الطوخي. وبعد دفع رواتب الممثلين والعاملين في الفرقة وتكاليف الإنتاج يتقاسم شوشو والطوخي ما تبقى من مال. وكان على شوشو أن يدفع 60% فوائد الديون للمرابين. وبالقليل الذي يبقى له ينفق منه على مصرفه الشخصي ومصروف عائلته. والواقع أنه أنتج أفلاما سينمائية بقصد الربح التجاري ومن سوء طالعه أن هذه الأفلام لم تربح فتضاعفت ديونه.
بيد أنه برغم ديونه الباهظة، كان شوشو يحرص على دفع رواتب عناصر الفرقة في اليوم الأول من الشهر، وعلى صرف المكافآت المتفق عليها للكتاب والمخرجين. وكان حبه لعمله يفوق اعتناءه بذاته.
هذه الديون أرهقته ماليا ونفسيا، بل وصحيا. كان يمضي وقتا طويلا في تدبير أمر تدويرها وسدادها. بل وتدخلت بشأن بعض القرارات. في مسرحية “آخ يا بلدنا” صادرت الدولة اسطوانات أغنية “شحادين يا بلدنا” ومنعت تداولها، لكن سمحت بأدائها على الخشبة. في المسرحية التالية “خيمة كراكوز” صودرت أغنية “المظاهرة” ومُنع تقديمها على الخشبة مع التهديد بإغلاق المسرح إذا استمر عرضها. كان لمخرج المسرحية روجيه عساف موقف مثالي يرفض الرضوخ لتهديد الدولة. وكان لشوشو موقف واقعي إذ لا يتحمل إغلاق المسرح وتوقف المدخول، نظرا لعبء الديون. وعشنا الفرقة وأنا موقفا صعبا. نتعاطف مع عساف ونتفهم شوشو. وكنت أنا مؤلف المسرحية والأغنية، فسحبتها وكتب ميشال طعمة بدلا منها أغنية “علي بابا”. ترك هذا الموقف جرحا معنويا في نفسية شوشو لن يلبث أن يصير ماديا. التهمت الديون حرية القرار لديه. هو الذي يرفض المزايدة ويقبل التحدي، اضطر أن يرضخ مرغما.
وفي مسرحية سابقة “جوه وبرّه” مشهد يسخر من مؤتمر قمة عربية وحدث أن صرخ أحد المتفرجين “هيدا هجوم ع القومية العربية وما منسمح فيه!” فما كان من شوشو إلا أن قفز من الخشبة إلى الصالة وأمسك بهذا الرجل وصاح “نحن اللي ما منسمح لحدا يزايد علينا.. تفضل فلّ من هون” وصفق الجمهور مودعا المتفرج البائس وداعما لشوشو الذي عاد إلى الخشبة واستأنف المسرحية.
ولم يحدث أن استثمر شوشو مأساة ديونه المرهقة طلبا للعطف. بل إنه كان يرقد في المستشفى في الأشهر الأخيرة من عمره، وحدث أن زاره السفير الليبي في بيروت وبلّغه تحيات “الأخ معمر” وقال إن قائد الجماهيرية مستعد أن يدفع عنه ديونه، فما كان من شوشو إلا أن قال: “لا تصدقوا حكاية الديون.. هذه مجرد أخبار صحف!”.
الديون، كضغط نفسي مزمن، مع التدخين الشره (60 سيجارة في اليوم كحد أدنى) والرقم القياسي في فناجين القهوة (نحو 20 فنجان يوميا) والأكل القليل وقلة الراحة، تضافرت لتصيبه بأزمة قلبية حادة. اشتدت عليه صيف 1975 وأقام أياما في العناية الفائقة بالمستشفى. وكانت الحرب اشتعلت في بيروت.
وكنت قد أعددت له مسرحية “زوجة الفران” (مستوحاة من مسرحية بالعنوان ذاته لمارسيل بانيول) وتدرّب عليها هو وأفراد فرقته 30 بروفة بإدارة المخرج يعقوب الشدراوي، لكن المسرحية لم تقدم في بيروت بسبب احتراق “مسرح شوشو” جرّاء قذائف المدفعيات المختلفة. ثم ما لبثت المدينة بأسرها أن اشتعلت.
وبرغم أوامر الأطباء بضرورة الخلود إلى الراحة، كان شوشو محتاجا إلى المال لسداد الديون ولاستمرارية الفرقة. فقبل عرضا بتقديم مسرحيتين في الأردن. سافر وعاد من عمان يقود سيارته بنفسه. ولم يتحمل القلب المريض ذلك الإجهاد فتوقف وأسلم شوشو الروح في الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر 1975. مات البطل، واحترق المسرح وانهارت المدينة، وانقرضت الطبقة الوسطى.