منه عرفت أن اسمه الحقيقي فوزي رفله وليس حلمي رفله! قلت له: الفرق واهٍ بين فوزي وحلمي. أفهم أن فاطمة شاكر تصبح “شادية” وأن جانيت فغالي تغدو “صباح”. قال: “صحيح الفارق بسيط لكنه مهمّ. يوم بدأت أمارس الفن كانت نظرة المجتمع التقليدي له سلبية. وكان بوسعي دائما أن أقول أمام العائلة والأقارب: الآخر اسمه حلمي.. أنا فوزي وما لي علاقة به”.
كنت أجلس معه في مطار القاهرة ننتظر إقلاع الطائرة المتوجهة إلى بيروت. يومها (1975) أخرج فيلم “سيدتي الجميلة” الذي عرض في مصر بعنوان “النشالة” وكان من إنتاج النجم الكوميدي اللبناني الراحل شوشو وبطولة نيللي ومحمود يس وعمر خورشيد وشوشو وعماد حمدي وحسن مصطفى. قال لي: “لو نادوا في الميكروفون على حلمي رفلة فمعناها أني تلقيت مكالمة من مكتبي أو من صديق. لكن إذا قالوا فوزي تبقى المخابرات أو الجوازات في أحسن الأحوال”!
تسنّى لي معرفة حلمي رفلة عن قرب سنة 1966 فور تخرجي في معهد السينما بالقاهرة. تدربت في شركته على إدارة الإنتاج. لكن العلاقة ظلت رسمية بين المنتج الكبير وبين المتدرب الشاب. علاقات عابرة اكتشفت وأنا أراقبه أنه يتمتع بروح النكتة وأنه براغماتي يجد لكل مشكلة حلا. وقلما رأيته متوتر الأعصاب. أما هو فلم يكتشف لدي شيئا، لأنه لم يراقبني! ثم أصبحت العلاقات وثيقة يوم سافرت إلى القاهرة لأطلعه على سيناريو وحوار “سيدتي الجميلة” وهو من وضعي. وبعد جلسات مناقشة النص كنا نعقد جلسات دردشة. وكنت أسعد للغاية وهو يحكي لي تفاصيل من حياته الغنية بالخبرات.
بدأ حلمي رفلة نشاطه السينمائي سنة 1936. عمل كمحترف لأول مرة مساعدا للماكيير ألكسندر سترانج في فيلم “وداد”، أول أفلام أم كلثوم. وسيتكرر ذلك في فيلمها الثاني “نشيد الأمل” (أو “منيت شبابي”). وبفضل وساطة “الست” لدى طلعت باشا حرب تلقى منحة لدراسة الماكياج في باريس.
عاد من فرنسا ماكييرا، وأول أفلامه بهذه الصفة كان فيلم “دنانير” من بطولة أم كلثوم أيضا (1939). وسيبقى الماكيير المفضّل لدى كوكب الشرق في فيلميها التاليين “عايدة” و”سلامة”. ولم يتولَّ مهمة الماكياج في فيلمها الأخير “فاطمة” لأنه في السنة نفسها 1947 أصبح مخرجاً.
وفي فترة عمله في الماكياج (40 فيلما) اشتغل في أفلام عبد الوهاب أيضا: “يوم سعيد” و”ممنوع الحب” و”رصاصة في القلب” و”لست ملاكا”. وفي فيلم “انتصار الشباب” بطولة أسمهان وفريد الأطرش، وعدد من أفلام ليلى مراد.
ثم أصبح حلمي رفله مخرجاً بدعم من المطرب محمد فوزي الذي أعطاه فرصة إخراج أول أفلامه التي أصبح عددها 79 فيلما! وكانت الصداقة نشأت بينهما عندما عمل حلمي مديراً لإنتاج فيلمي “مجد ودموع” و”قبلني يا أبي”. وبعد التعاون الأول في فيلم “العقل في أجازة” أخرج حلمي رفله تسعة أفلام من بطولة محمد فوزي، منها “الآنسة ماما” مع صباح. وقد برع في إخراج الأفلام الغنائية الكوميدية وهي لونه المفضل المنسجم مع شخصيته المرحة الساخرة، فضلاً عن أنه استوعب تماما تجارب هذا اللون سواء أيام عمله كماكيير أو كمدير إنتاج أو كمخرج، مع أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد ومحمد فوزي.
كان فريد الأطرش بطل فيلم “تعال سلّم” الذي أخرجه حلمي رفلة، ونجاة الصغيرة بطلة “جفت الدموع”. أما عبد الحليم حافظ فكان بطل “ليالي الحب” و”فتى أحلامي” و”معبودة الجماهير”. أما “شارع الحب” فكان حلمي رفله منتجه فقط.
ولم ينسَ المتاعب التي عانى منها أثناء إخراج “معبودة الجماهير”. “الفيلم ده اتصور في أربع سنوات. أولاً بسبب مرض عبد الحليم واضطراره للتوقف عن العمل لفترات طويلة، وأحيانا للسفر إلى لندن للعلاج. والتوقف عن العمل مكلف إنتاجيا وفنيا. وكنّا بنينا حارة للتصوير في استوديو نحاس والإيجار لازم يندفع حتى لو ما صوّرناش. اتصلنا بالزملاء المنتجين مين عنده مشاهد لازم تتصور في حارة يجي يصورّ في حارتنا. وتم تصوير بعض الأفلام فعلا!.. وحين بدأنا العمل في هذا الفيلم كان من إنتاج أفلام حلمي رفلة. في الأثناء تم تعييني مديرا للمؤسسة العامة للسينما التابعة للدولة. وكان هناك تعارض بين عملي الرسمي في القطاع العام وبين صفتي كمنتج في القطاع الخاص. الحل؟ الفيلم أصبح “شركة أفلام القاهرة تقدم” من إنتاج وإخراج حلمي رفلة والمنتج المنفّذ إبني منير رفله. وليت المتاعب توقفت هنا! هذا الفيلم عن قصة للصحافي المشهور مصطفى أمين. كلفت يوسف جوهر إعدادها للسينما، وحلمي حليم كتابة السيناريو ومحمد أبو يوسف كتابة الحوار. وكنا لا نزال نصوّر الفيلم حين ألقي القبض على مصطفى أمين في يوليو 1965 بتهمة التعامل مع المخابرات الأمريكية. وأصبحنا في وضع محرج لأننا ننتج فيلما كتب قصته صحافي معتقل. وبعد اتصالات قام بها عبد الحليم مع كبار المسؤولين تمّ الاتفاق على السماح بعرض الفيلم لاحقا، لكن مع حذف اسم مصطفى أمين من عناوين الفيلم التي تظهر في بدايته، ومن ملصقات الدعاية (الأفيشات). وهذا ما نفذناه على مضض”.
كان فيلم “معبودة الجماهير” من بطولة عبد الحليم حافظ وشادية. وحلمي رفله هو مكتشف شادية وهو الذي أعطاها اسمها الفني الذي اشتهرت به. قال لي: “شادية بدأت سنة 1947 كومبارس يدوب تقول كلمتين في فيلم “أزهار وأشواك” للمخرج محمد عبد الجواد. وتصادف أني شفتها وسمعت صوتها وحسيّت أن عندها موهبة كبيرة. وكنت أستعدّ لإخراج أول أفلامي “العقل في أجازة” وقررت أن أسند إليها دور بطولة مع محمد فوزي وليلى فوزي. لأول مرة بطلة، ونجحت قوي. وانطلقت بعدها في مشوار فني رائع”. بعدها صارت شادية بطلة العديد من أفلام حلمي رفلة.
وكما شادية كذلك وردة الجزائرية التي عرفها الجمهور لأول مرة بطلة فيلم “ألمظ وعبده الحمولي” من إخراج حلمي رفلة. وكذلك أيضا نبيلة عبيد التي ظهرت بطلة لأول مرة في “رابعة العدوية” وهو من إنتاج حلمي رفلة وإخراج عاطف سالم. بل إن حلمي رفلة أقنع أم كلثوم بإنشاد أغنيات الفيلم للدور الذي تؤديه نبيلة عبيد!
إلى جانب الإخراج كتب حلمي رفلة السيناريو لـ 14 فيلما، بيد أنه اشتهر كأحد كبار منتجي الأفلام (60 فيلما). وبعض هذه الأفلام أخرجها بنفسه وبعضها أسند إخراجها إلى آخرين مثل: حسن الإمام في “شفيقة القبطية” و”قصر الشوق”. عز الدين ذو الفقر في “نهر الحب” و”امرأة على الطريق”. عاطف سالم في “إحنا التلامذة” و”السبع بنات”. وأخبرني حلمي رفله: “عاطف سالم اشتغل معايا مساعد مخرج أول. وكان سعد عرفة المساعد الثاني. بعدين عاطف سالم بقى مخرج وسعد عرفة مساعد أول معه. بعدين سعد أصبح مخرج، وبعدين شريف ابن سعد دخل معهد السينما واتخرج واشتغل مساعد مع مخرجين منهم أبوه، ثم أصبح المخرج شريف عرفه.. وعمرو عرفة كمان، الإبن التاني لسعد، أصبح مخرج”.
ظلت علاقة حلمي رفلة مع نجوم السينما ممتازة. ليس فقط لأنه منتج ومخرج، بل لأنه كان شخصا ودوداً، وفيّاً، ظريفا، وعملي للغاية. تصادف أنني كنت في مكتبه بالقاهرة ساعة جاءه نبأ وفاة أم كلثوم. اعتذر عن مواصلة الاجتماع وسالت دموع خفرة على خديّه وتوجّه فوراً إلى بيتها. سألني إن كنت أرغب بمرافقته فقلت بل أرحّب بذلك. وغصّت فيلا أم كلثوم بالمعزين. جلس حلمي رفلة مستغرقاً في ذكرياته مع الراحلة، أما أنا فكنت أراقب بفضول الآتين والذاهبين من شخصيات فنية وسياسية مشهورة ومن تيارات بشرية متدفقة من المواطنين. وفي طريق العودة أخبرني أنه أشرف على ماكياج أم كلثوم في حفلاتها الغنائية بناء على طلبها، وتوقف عن هذه المهمة عندما تحوّل إلى الإخراج.
من اللواتي كنّ على صداقة قوية مع حلمي رفلة: تحية كاريوكا، وهو دخل السجن بسببها! سألته عن الخلفيات فقال: “الحادثة دي في أوائل أيام الثورة. سنة 53. يومها قبضوا على الشيوعيين وبينهم مصطفى كمال صدقي. وكانت تحية كاريوكا زوجته. والمباحث قبضوا عليها لأنهم وجدوا منشورات شيوعية في بيتها. في التحقيق رفضت تحية أن تبوح بإسم أصدقاء زوجها. ذهبت لأزورها وأمام باب السجن التقيت بزوجة الطبّال سيد كراوية وكانت تاخد لها الطعام. ولما شافتني هتفت باسمي.. تحية من الزنزانة سمعت الاسم فصرخت “إزيك يا حلمي”؟ قلت لها بصوت عالٍ وانا واقف على الرصيف المقابل للسجن “أنا كويس، شدّي حيلك”. وهذا كان السبب في اعتقالي والتحقيق معي. حجزوني 24 ساعة ووجدوا إني “ماليش دعوة” فأطلقوا سراحي بكفالة جنيه واحد وحولوني الى المحكمة العسكرية وطلع الحكم بالبراءة. تحية خرجت بعد ثلاثة أشهر”. عندئذ سألته: “هل كانت تحية كاريوكا شيوعية؟” أجاب: “ولا شيوعية ولا حاجة. بس هي بنت بلد شهمة ومش ممكن تفشي أسرار زوجها”.
سنة 1975 كان حلمي رفلة يسكن بمفرده في شقة صغيرة، في المبنى الذي يقع فيه مكتبه، 87 شارع رمسيس. و كان انتقل إليها بعد هجرة عائلته إلى كندا. قال: “عينوني مديراً لمؤسسة السينما الحكومية من دون رغبتي. أمروني بصيغة رجاء! وأُلزمت بتصفية شركة الإنتاج الخاصة بي. عرّضني ذلك لخسارة مالية كبيرة. قررت أن أتحمل مشقة ذلك وحدي من دون أن أُلزم عائلتي. كان ابني منير أصبح منتجاً وابني نبيل درس التصوير في معهد السينما. شجعت العائلة على الهجرة. لم يكونوا متحمسين، وأنا في قرارة نفسي لم أكن متحمساً، لكن ذلك كان الحلّ الوحيد”.
دعاني ذات ليلة للعشاء في بيته. طلب لي كباب وكفته وسلطات، أما هو فكان يأكل طعاما خاصا: دجاج مسلوق وخضروات مسلوقة أيضا. قال لي هذا الطعام مفروض عليّ من الأطباء. ثم علّق بجملة مشحونة بالسخرية المريرة، قال: “أنا ما أكلتش طول عمري!.. قضّيت نص عمري مش لاقي آكل، والنص التاني مش قادر آكل”!
وشاء القدر أن يموت حلمي رفلة في الغربة. أصابته نوبة قلبية وهو في مدينة ليون في فرنسا، وتوفي يوم 14 إبريل / نيسان 1977 عن 68 عاما.