طلال سلمان

من خليل الى قدس

في ذكرى مذبحة الحرم الإبراهيمي، وهو أمر مقصود، وفي ترجمة »حرفية« لاتفاق الخليل كما تفهمه إسرائيل، أعطى بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر لبناء حي يهودي جديد في القدس العربية، فوق جبل غنيم، لزيادة عدد اليهود من سكانها إلى حوالى نصف المليون (مقابل حوالى 150 ألف فلسطيني عربي، مع احتمال تناقص أعدادهم تحت الضغط الإسرائيلي المتزايد، بالسلاح كما بوسائل أقسى من القتل وأبشع)…
لم يتوقف نتنياهو أمام الاحتجاجات الضعيفة لشركائه من رموز سلطة عرفات في اتفاق الخليل،
ولم يهتم كثيرا لحملة الاحتجاج الدولي المرشحة بعد للتصاعد، والتي يشكل موقف الاتحاد الأوروبي إحدى ذراها،
ولم يلفته، ولو للحظة، ذلك الاجتماع التشاوري في مجلس الأمن الدولي، والذي دعا إليه بعض الأطراف العرب من المتورطين في اتفاقات ومعاهدات »دولية« مع إسرائيل،
قال نتنياهو: من الضروري تلبية الحاجات، وسنقوم ببناء المساكن لليهود والعرب (هل سمع أحدكم بمستوطنين عربا؟!!)… كما أن حقنا كدولة تتمتع بالسيادة أن نبني في القدس..
أوليست القدس، بمنطق نتنياهو وسائر القيادات الإسرائيلية بمن فيهم »حمائم الاعتدال«، العاصمة الموحدة والأبدية لدولة إسرائيل؟!
الدولة تبني، إذن، في »عاصمتها«.
وكالعادة فهي تذكر »العرب« بوصفهم بعض رعاياها في »عاصمتها«، مع أنها تنساهم عندما تباشر البناء، بل ان المستوطنات لا تقوم عادة إلا فوق أراضيهم وحطام بيوتهم التي كانت لهم..
وما كان القدس العربية ليس الآن إلا مجموعة من الأحياء القديمة، الآيلة بيوتها العتيقة الى السقوط، والتي لولا أنها تتصل أو تشكل حرما أو تتوزع بين الممرات والمعابر والطرق الداخلية التي تحمل آثار أقدام السيد المسيح (وعمر بن الخطاب) بل التاريخ كله، لكانت قد هدمت جميعا أو طرد أهلها منها، (وهذا على أي ما يتهددهم مستقبلاً، وقد سرى على الذين من قبلهم)..
الدخول الى القدس العربية ممنوع، والخروج منها ممنوع، إلا بإذن خاص هيهات أن يحصل عليه طالبه،
وطلاب القدس، على سبيل المثال، الذين يذهبون إلى الدراسة في جامعة رام الله، يضطرون الى »التسلل« منها عبر الحواكير، ومن فوق أسطح البيوت، وعبر الزواريب والأزقة الخلفية، لكي يصلوا الى الطريق العام، ومن ثم يقطعون المسافة مشيا على أقدامهم… كذلك فهم يعودون متسللين كما ذهبوا!
إننا نشهد، الآن، أولى التطبيقات العملية لاتفاق الخليل!
ففي الخليل كانت التجربة التمهيدية الكاملة، وكان واضحا أن الدور سيكون بعد ذلك على القدس، وأن المفاوضات التفصيلية »المملة« التي استطالت شهورا في الخليل إنما كان يديرها الإسرائيلي (ومعه الوسيط الأميركي دنيس وس) وفي ذهنه القدس.
.. من الخليل، إذن، إلى القدس، ولكن النسبة ستكون مقلوبة: أي الخُمس (20$) للعرب وأربعة أخماس (80$) لليهود!
لا مفاجأة، فمَن وقّع اتفاق الخليل، ومَن وافق عليه كان يعرف انه في الخليل انما كان يبيع او يرهن ضمنا القدس ويسقط عن قسمها الشرقي هويته العربية.
يبيع؟ بل يتنازل مجانا وسلفا عن القدس..
أو أنه ترك اهلها يذهبون مع ربهم فيقاتلون.
لم تحتل »المفاوضات« حول الخليل والحرم الابراهيمي فيها، ومستوطنات كريات اربع، عناوين الصفحات الاولى في الصحف ومقدمات الاخبار في الاذاعات مرئية ومسموعة اربعة شهور عبثاً.
كان القصد واضحا: المزيد من تفتيت »القضية« الى مجموعة لا تنتهي من التفاصيل المملة، التي يضيع ضمنها جوهر الموضوع، وتغدو المدينة الواحدة الموحدة بأرضها وأهلها وتاريخها مجموعة من »الملفات« و»الموضوعات« المتعددة التي بالكاد يربط بينها رابط..
كان الاسرائيليون يجرون، بقيادة نتنياهو، »تجربة« او »مناورة باللحم الحي« لكي ينتهوا من القدس مع مفاوضات الخليل وعبرها: فإذا كان للاربعمائة مستوطن في الخليل الحق في الخمس من مساحتها، وفي محيطها ومداخلها والطرقات الالتفافية، اضافة الى تحكمهم بالسلاح بدخول المسلمين من اهلها للصلاة في الحرم الابراهيمي، فمن الطبيعي ان يكون للاربعمائة وخمسة وخمسين الفا من اليهود الذين يقيمون في القدس الغربية الآن، الحق في اكثر من اربعة اخماس المدينة المقدسة..
ان عرب القدس هم، في احسن الحالات، مستوطنو كريات اربع، بغير سلاح، بغير اظافر، بغير قيادة سياسية، بغير حق الاتصال بأهلهم في سائر انحاء فلسطين.
وتدريجيا، بل لعلهم صاروا »جزيرة« معزولة »داخل البحر اليهودي الاجاج… خصوصا اذا ما تذكروا الأحياء العشرة التي يطوق بها اليهود القدس العربية بالمستوطنين المسلحين، هذا من قبل ان يقوم الحي الجديد فوق جبل ابو غنيم..
واذا ما نجح مثال الخليل، فلسوف نشهد، بعد شهور او سنوات، مفاوضات مفتوحة داخل الزمان، لتحديد المعابر والطرقات التي يتوجب على عرب القدس سلوكها لكي يؤدوا الصلاة في المسجد الأقصى او في كنيسة القيامة..
اما اذا حاولوا الاعتراض فإن مئة الف »باروخ غولدشتاين« او يزيد سيكونون جاهزين لإعادة النظام الى العاصمة الأبدية والموحدة لدولة اسرائيل.. المقدسة!

Exit mobile version