طلال سلمان

من حكمة الى لوس انجلوس عبر اوزاعي

تحت شعار »الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة«، المأخوذ من »الكتاب المقدس«، وفي احتفال بسيط غلب عليه الطابع الكنسي ورعاه حاضراً البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله بطرس صفير، تم تدشين المبنى الجديد لجامعة الحكمة، في فرن الشباك عند مدخل بيروت الشرقي.
الرحلة طويلة بين انطلاق هذا الصرح الأكاديمي كمعهد للحقوق في العام 1875 وتحوله الى جامعة بكليات أربع، هذه الأيام، تشهد للمؤسس المطران يوسف الدبس ببُعد النظر واستشراف المستقبل بينما منطقتنا جميعاً غارقة في دياجير الحقبة العثمانية.
على أن الحيثيات الأصلية لإشادة المعهد الذي تحول الى جامعة إنما تتضمنها مقتطفات من دراسة للمونسنيور ميشال حايك عن المطران الراحل يوسف الدبس، هذا بعض ما جاء فيها:
»على مدى هذه الفترة، حيث امتدت أسقفيته في بيروت، انطلق رجال الفكر الماروني إلى الساحة وأطلقوا المقولات الكبرى التي لا يزال الشرق يرتادها: في النظرية القومية، في التجديد الفني واللغوي، في الإعلام الصحافي، في الوعي السياسي الشعبي، في البعث الثوروي، في مقاومة الاستعمار، في النهم العلمي، في الدعوة العلمانية، بينما المغتربون منهم في مصر وروما وباريس يوقظون الغرب على قضية القومية العربية التي ابتدعوا اسمها، ويوقظون الشرق على ضجة المبادئ التحريرية التي نقلوها إليه، وعلى سحر البيان الذي جددوه. إنه زمن بطرس وسليمان البستاني وفارس الشدياق ورشيد الدحداح وإبراهيم عازوري وشكري غانم وخير الله خير الله..
»… أما الدبس فكان له أن يذهب الى أعمق من الأدب والسياسة في سعيه الى ترقية المجتمع وتربيته وتعميم المعرفة على أبنائه. لم يجابه تركيا بوطنية مجاهدة، بل بترسيخ المناعة التاريخية في النفوس. كما أنه لم يرهن نفسه للغرب على رغم ما قدم له الغرب من معارف ومعونات، بل بالأحرى قام بمنشآت كانت أعمال تحرير وطني، لاعتقاد منه صائب بأن التراث لا يعيش إلا إذا حمله أهله فعاشوه تجديداً لا تقليداً، وأن خير وفاء له هو في بعثه وتلبيسه ثوب الحاضر«.
ألا تأخذنا هذه الكلمات ذات الوهج الى مؤتمر لوس انجلوس وما جرى فيه وما صدر عنه؟!
إلى هذا الحد تخلف حاضرنا عن ماضينا بما يكاد يفسد علينا مستقبلنا؟!
ليس في السؤال اتهام »للموارنة« بأنهم قد »خانوا« تاريخهم و»رسالتهم«، فكل الطوائف والمذاهب في مثل هذه الخيانة سواء كأسنان المشط، بل انهم شركاء الى حد التواطؤ على الذات.
وليست المقارنة ضرورية بين جامعات الطوائف والمذاهب لكي نرى من منها الأبعد عن الروح الأكاديمية وعن الرسالة الوطنية، واستطرادا القومية، وبعضها يأخذ أجيالنا الجديدة بعيداً عن الوطن وعن العرب وقضاياهم وعن »ترقية المجتمع وتعميم المعرفة على أبنائه«.. ويرهن طلابه للغرب (وللشرق؟!)، ويخرج أهله من التراث الى التقليد ويشوه التحرير الوطني بالدخول في مناكفات ومنافسات مؤذية فوق جسر مفخخ!
إن المقارنة بين »الأدوار« في زمن الاحتلال العثماني والأدوار في زمن الاحتلال الإسرائيلي الأميركي مفجعة: لكأنما انطفأت الشعلة وعمت روح الاستكانة والاستسلام للهجانة… والذين تلاقوا في لوس انجلوس لم يفعلوا ما فعله أجدادهم: إيقاظ الغرب على قضية القومية العربية، بل هم كادوا يوقظون الفتنة… تماما كالذين ذهبوا الى التصادم في الأوزاعي حول مشروع الخلافُ من حوله علني، والمستفيد من وقوعه معروف ومكشوف، وإن كان الأطراف جميعا والوطن من قبلهم في قائمة الخاسرين.
أما المقارنة بين جامعات الطوائف والمذاهب التي تتوالد فتتكاثر بلا انقطاع، حتى لا يكاد يخلو منها حي في مدينة، وبين الجامعة الوطنية، فهي أيضا مفجعة.
فبينما يتهاطل المال تبرعاً أو توظيفاً في مشروع سياسي مشبوه، على بعض المؤسسات التي »تنتزع« رخص الجامعات بقوة التقاسم الطائفي والمذهبي، فإن الجامعة اللبنانية تعاني ضائقة تكاد تشلها عن متابعة رسالتها الوطنية الجامعة.
وقوي الذاكرة وحده هو القادر على استذكار موعد المباشرة بالبناء الموحد للجامعة اللبنانية، التي ضربها الانقسام (الطائفي) حتى أنهكها، ثم جاء الحصار المالي ليكمل مهمة الإشكالات السياسية الطائفية المفتوحة على المجهول دائماً، فإذا هي »مشروع« ممنوع عليه الاكتمال، وإذا رسالتها التوحيدية معطلة، وإذا هي ضحية الإشكالات المفتعلة والخلافات الطارئة التي لا تنشب إلا إذا تبدى في الأفق إنجاز من شأنه أن يعيد توحيد اللبنانيين على طموحاتهم المشتركة وأهدافهم الواحدة في وطن موحد لشعب واحد يزعم لنفسه انه صاحب دور بل وصاحب رسالة حضارية ثقافية فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية في محيطه العربي المفتوح له كما لا يمكن أن ينفتح لغيره أبداً.
فأما السلطة فمشغولة عن هذا كله بتفخيخ القصور، بعضها للبعض الآخر، وتفخيخ الجسور للقوى ذات الرصيد الشعبي الممتاز والذي حققته بالمقاومة المجيدة التي انتصرت بإجلاء الاحتلال الإسرائيلي، وتفخيخ حياة الشعب بالمزيد من الضرائب والرسوم وكلفة الدين الثقيل وخدمته التي تكاد تحولنا جميعاً الى خدم في بلاد الآخرين.
ومبروك لجامعة الحكمة مبناها الجديد، في انتظار ان نهتدي الى أعمدة الحكمة السبعة!

Exit mobile version