طلال سلمان

»من حقنا أن نعرف«

اختطفت مني ذاكرتي وأنا في الطريق، فنسيت السؤال والجواب، ولذا سأتحدث من خارج النص..
نتلاقى هنا، نحن المقتولين في المقتولين، المنتقصة كرامتنا الانسانية وحريتنا بل مواطنيتنا مع استمرار اختطاف المخطوفين عبر احتجاز مستقبل أسرهم، أسرنا.
إن لبنان كله في الأسر، طالما ظل مصير مواطن واحد من مواطنيه مجهولا او مجهلا، وطالما استمرت أسرة واحدة تعيش حسرة افتقاد غائب لا يعود، والتعقيدات التي يستدرها ويستولدها الوضع المعلق لهؤلاء الذين لا يعرفون لهم خصما يحاسبونه على جنابته، ولو بالصفح، ولا يمكنون من تجاوز مأساتهم بالقانون طالما تعذر إحقاق الحق لكي يواصلوا حياتهم بعد النكبة التي اضطروا الى التسليم بها صاغرين.
لقد أصدروا عفوهم العام عن القتلة،
فمتى يصدر العفو العام عن المخطوفين والمفقودين والمغيبين، حتى لا نقول المقتولين، فنتهم بالتجاوز أو بالتحريض،
يتهافت الموت أمام الوجع المقيم الصادر عن الجهل بمصير الحبيب، أبا أو أخا أو زوجا، جدا أو أما أو اختا، فلا يعرف إن كان ميتا فيُبكى ونتوزع مأساتنا فيه أو هو حي فيرجى مع وعينا باستحالة مثل هذا الاحتمال.
لا يجوز أن نظل معلقين فوق صليب مأساتنا المفتوحة، بعد فقدان الحبيب، لا نجد من ينزلنا عنه ولا من يغلق أبوابها ليمنحنا احدى الراحتين.
يتهافت الموت أمام الوجع الممض. صار مطلبنا أن يعلن الموت عن نفسه. نسينا الجاني ولسنا نريد أن نسمع منه أو عنه. ولكننا نصر ونطمح أن نسمع العفو عن القتيل وذريته وأهله الأقربين.
لا تكتمل حريتنا، نحن الذين نجونا من القتل والخطف والإخفاء طالما ظل المغيبون أسرى ظلام الجهل بمصيرهم.
إننا لا نريد أن نعرف القتلة أو الخاطفين، بل إننا نسينا ما كنا نعرفه أو نخمنه أو نقدره أو نظنه فيهم وحولهم،
لكننا نريد أن ننهي مناخ الخطف والإخفاء والقتل على النية أو على الهوية أو على العقيدة السياسية، على الاختلاف الفكري أو الاختلاف الطائفي أو التمايز المذهبي.
إن الحروب الاهلية تقوم وفي جملة أسبابها الخوف، الخوف على الذات، الخوف من الآخر،
والحروب الاهلية يفجرها الحقد، حقد المظلوم والمحروم والملغى والمغيب دوره أو حقه في وطنه،
من حقنا أن نعرف حتى لا يقتلنا الخوف، أو يأخذ أبناءنا الى الحرب مرة اخرى.
من حقنا أن نعرف، حتى لا تقود الاحقاد المترسبة من حرب انقضت الى حرب جديدة،
إن استمرار هذه المأساة يتعدى الجوانب الخلقية والانسانية وحتى القانونية الى السياسة، فيهز ركائز عيشنا المشترك وتوافقنا على دولة لهذا الوطن الصغير القائم على التسويات،
فاستمرار مأساة المغيبين يهدد بنسف بعض ركائز التسوية التي أرسيت في اتفاق الطائف، لتنهي حروب الطوائف والحروب داخل كل طائفة قبل عشر سنوات أو يزيد،
من حقنا أن نمنع عن أبنائنا خطر الضياع مجددا، عبر الخلط بين حقوق الانسان وحقوق الطوائف اللاغية للانسان والوطن،
ومن واجبنا أن نتصدى جميعا لهذا الغول الطائفي الذي تمكن من التهام بعض أقدس قضايانا، وحطم بعض أشرف مطامحنا،
فعبر هذا التصادم بين شركاء المصير، عن أهدافهم والمضيعين عن عدوهم، خسرت فلسطين وهج ثورتها المسلحة، وطغى الخطأ حتى أخذ المتعبين بحمله ومسؤوليته الى خارج مدار قضيتهم، وخسر اللبنانيون وحدتهم ومشروع الدولة وحلم الوطن.
لقد طغى الخطأ وغرقنا فيه حتى تهنا عن أهدافنا الصحيحة، ولعل الكثير منا ما زالوا تائهين، هناك في فلسطين وهنا في لبنان.. لكن ذلك موضوع آخر، وانما ذكرنا به الحديث عن المغيبين والمفقودين.
والحمد لله أن مقاومة جديدة قد انبثقت من قبل الآمال المحطومة والأعمار المهدورة والمدن المغتالة، فتوجهت الى الهدف الصحيح، وأعادت الاعتبار الى دماء الشهداء، والى شرف الانتماء الى هذه الارض التي حاول العدو وما زال يحاول إحراقها بأهلها، نحن رجالا ونساء وأطفالا وأشجارا ومدارس ومواسم، الباقين فيها ولها برغم كل جراحنا.
عسانا اهتدينا أخيرا الى الطريق الصح نحو الهدف الصح،
من حقنا ان نعرف،
من واجب الدولة أن تعترف بنا، كمواطنين، فتعطينا شهادة حياة، وتسمح لميتنا بالموت، وتسمح لنا بدفن موتانا، لنستطيع أن ننظر الى الأمام بدل أن تظل أعناقنا ملوية الى الخلف، الى الماضي، بكل سموم الحرب فيه.
مرة أخرى: تكرموا علينا بإصدار عفو عن أحبابنا المغيبين، وقد سلمنا نحن بموتهم، فاسمحوا لنا بدفنهم لكي يكون لنا بعدهم غد، لن ننساهم فيه، ولكنهم لن يظلوا بفضل سياسة النعامة المعتمدة عقبات في طريقنا الىه وألغاما في طريقنا الى العيش المشترك ودولته والوطن.

Exit mobile version