طلال سلمان

من “حصالة” الحكمة

كنت آتي إلى هذا المكان كلما دعتني الحاجة إلى أن أخلو بنفسي بعيدا عن واجبات كانت هذه المدينة تفرضها بنعومة ومتع كانت تعرضها بسخاء. هناك مدن عرفت كيف تحتويني ومنها هذه المدينة، ومدن لم تفهمني تعلمت ألا أجهد نفسي فيها أو معها. مدن كثيرة تغيرت وكذلك الأماكن التي كنت أفضلها ومنها هذا المكان الذي أكتب منه هذه السطور. المكان هو نفسه بالمعنى الجغرافي ولكنه الآن شيء آخر بمعنى الزمن وشيء ثالث بالمعني الإنساني، أقصد بالمعنى العاطفي. هنا قبل عشرات السنين كنت أسجل تفاصيل أيامي التي أقضيها في هذه المدينة. أختار مائدة في موقع يرى ولا يرى. أطلب شرابي المفضل، وهو الذي كان يأتي عادة مصحوبا بأطباق، طبقان منها على الأقل ينحدران من أصول طائفية والبقية متنوعة المنشأ ومتباينة في عناصر التطور والتذوق.


وصل الشراب واستقبلته متململا فاللون يشي بنقص في خبرة من أعده والكأس من زجاج أملس رخيص المظهر والأطباق لا تأتي إلا بالطلب، كل طبق يطلب لذاته وعلى حده. رفعت رأسي بنظرة احتجاج فقابلني وجه شاب تعيس عديم الحيلة. كتمت النظرة وعدت إلى أوراقي أرتبها في انتظار وصول الرفاق. التقينا أمس وبالصدفة في مؤتمر تنظمه مؤسسة دولية. كانت الصدفة مثيرة حقا. رجلان وامرأة استضافتهم قبل ثلاثين عاما هذه المدينة، سنوات استطاعوا خلالها إقامة علاقة جماعية قوية انفرطت بعد رحيلهم عنها. بقيت منها الرسائل تماما كما بقي في المدينة بعض أبراج كنائسها ومآذن مساجدها ومكانا مثل هذا المكان دليلا على ماض يخاف أن ينساه البشر. اتفقنا على عقد لقاء اليوم في المكان الذي شهد أمتع جلساتنا نستكمل فيه بعض ما فاتنا في زمن الانفراط. اشترطت الأنثى بيننا حرصا على وقتنا الضيق أن نركز على ما نعتقد أنه أضاف إلى أرصدة الحكمة التي جمعها كل منا على مر السنين.


“أراك حزينا هذا الصباح”. هكذا افتتحت النقاش صديقتنا وأضافت. “أرى في عينيك حزنا لم يكن فيهما ليلة الأمس. لعلك تذكر يا صديقي أنك كنت أول من لفت انتباهي إلى أن في العينين تجتمع كافة أحاسيس الإنسان. العينان لا تكذبان. سرك معلن في عينيك ورغباتك أيضا. استفدت كثيرا من ملاحظتك. استفدت منها في علاقتي بزوجي. كنت أقرأ في عينيه نوايا خلاف فابتعد وأقرأ فيهما السلام والحب فاقترب. رأيت فيهما ذات يوم رغبة انفصال فدعوته إليه. استفدت منها في تربية أطفالي. كنت دائما جاهزة لاستقبال ما يدبرون ويطلبون أو يرفضون. عينا الطفل تفضحان خداعه قبل لسانه وقبل دموعه. الرجال أيضا تفضحهم عيونهم. ألم نتعلم نحن النساء كيف نحكم على شخصية رجل من عينيه. كم رجل أسقطناه في حساباتنا لأن نظرته لم تصمد أمام نظراتنا. أتحدى أي مرأة تزعم أنها لم تتلق من عيني زميل في العمل أو ضيف في حفل تحذيرا لتتوقع تحرشه بها قبل أن يمد يدا أو يهمس بحرف. لن أطيل. فقط أردت أن تعرف أنك بدوت لنا حزينا على غير عادتك”.


أجبت “صدق حدسك. أما الحزن فجاثم على صدري منذ وطأت بقدمي مطار هذه المدينة. تعرفان أن هذه المدينة تمثل لي الكثير الكثير. لم تكن أبدا بالنسبة لنا مجرد مباني وشوارع وأماكن تسلية وقاعات علم ومنابر ثقافة. كانت كل هذا وكانت أيضا بشرا ونظافة وموسيقى وأغان ومهرجانات. كانت مدينة سعيدة تسكنها نفوس مرتاحة وقلوب مزدهرة بالتعاطف. بكل المقاييس، وأقصد مقاييسنا نحن الشباب، كانت مدينة ناجحة. أتذكران حين أطلقنا عليها مدينتنا الفاضلة. لا أخفيكما يا صديقاي، ما هي إلا خطوات على أرض مطارها ودقائق في معية سائق التاكسي ونظرات على صور للزعماء وأقوال مأثورة، إلا وحط على القلب حزن لم يفده بالتأكيد قرارنا بأن نلتقي في هذا المكان. كم صادقة كانت نصيحة كبيرنا ومعلمنا الذي طلب منا أن نحمل معنا دائما أحلى ذكريات ماضينا، لا نتخلى عنها في حاضرنا ولا مستقبلنا، وحتما تذكران كيف شدد علينا أن لا نحاول بعث ماضينا حيا. أذكر تحذيره حرفا حرفا، إن فعلتم قد تخسرونه فتعيشون بقية حياتكم ينقصكم الحنين إلى ماض جميل. أظن، يا عزيزتي، أني تخيلت للحظة أنني أستطيع بعثه حيا، تجاهلت تحذيره فصدمتني المدينة ودب الحزن الذي ترين مسحة منه”.


استأذن ثالثنا. غاب دقائق وعاد. رشف من كأسه رشفة علق بعدها بقوله “صحيح ما تقولان. هذه المدينة تغيرت. هذا المكان، كنت أحضر إلى هنا لأستمتع بمنظر خلاب في صحبة رائعة. بحثت عن المنظر لم أجده. سألت عاملا فتعلل بمؤسسة كبيرة المقام استولت عليه. أخفته عن الأبصار إلا أبصارها. تذكران طبعا الصحبة الرائعة فلكما أدوار لا ينساها إلا جاحد أو شخص غلبه الزمن. وأنا لست واحدا من الاثنين، على الأقل حتى الآن. هنا في هذه المدينة تعرفت على الحب. منذ عرفته لم أطق العيش بعيدا عنه. بالغت في التعبير عنه ليس فقط أمام من يهمه أمره ولكن أيضا أمام من لا يهتم ولا يعرف. كنت من فرط إعجابي بحالة الحب أتعرض لسخرية من أحب ومن لم يحب وكل حاسد وغيور. كنتما خير الأصدقاء وكانت الحبيبة خير ناصح ومحذر. قالتها مرارا، أن لا أتكلم كثيرا في وصف الحب ولا أتكلم إطلاقا في لحظة الحب، حجتها كانت إن الحب كفيل بأن يعبر عن نفسه وأن الكلام في غير مكانه مضيعة لوقت الحب وهو قصير وثمين. لم أقبل التحذير ودفعت الثمن غاليا. يئست مني ورحلت من المدينة. لم تترك أثرا، حتى المنظر الخلاب استولت عليه المؤسسة التي جاهرت بكره الحب. صدقتما، المدينة لم تعد لنا. ولكن الحب باق. لن أتخلى عن قولة حق. لن أتوقف عن قولة حب”.


دفعنا الحساب. غادرنا المكان لا نحمل منه أو عنه أي ذكرى. لن نعود.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version