طلال سلمان

من النفق إلى القمة وبالعكس!

بدأت قمة واشنطن وعداً رئاسياً أميركياً ببعث »عملية السلام في الشرق الأوسط« انطلاقاً من جراح فلسطين المحتلة، وانتهت لجنة »ملكية« لوقف إطلاق النار الإسرائيلية على الفلسطينيين.. حتى إشعار آخر!
خرج بنيامين نتنياهو من النفق الذي حفره تحت الحرم القدسي، في القدس الشريف، وبقي ياسر عرفات حبيساً فيه، مع وعد بأن يُحفر له نفق آخر، غداً، تحت الحرم الإبراهيمي في الخليل.
لم يقفل النفق. أقفل البحث فيه؟!
لم تفشل القمة بدليل أنها اختتمت بصمت يليق بجنازات العظماء!
أعظم الرابحين إطلاقاً، بل لعله الرابح الوحيد، هو الذي قال بغيابه ما قالته القمة في ختامها: إنها كانت محكومة بالعجز الموضوعي عن تحقيق أي نجاح. لقد ربح الرئيس حسني مبارك شعبه، وتقديراً عربياً واسعاً مع تنويه ببُعد نظره الذي جنّبه التورط والمشاركة في هذه »الضربة المسرحية« التي يحتاجها بيل كلينتون انتخابياً، وكان يتمناها عرفات كطوق نجاة سياسي، ولا يستطيع نتنياهو أن يرفضها لأسباب إسرائيلية أولاً، وعربية ثانياً، وأميركية ثالثاً وأخيراً.
ولقد حافظ نتنياهو، فعلاً، على الربح الذي كان حققه »بذراعه« قبل أن يجيء إلى القمة: النفق، بما هو »وضع يد« على القدس العربية واستبعادها عن جدول أعمال أية مفاوضات مقبلة مع الفلسطينيين، والوقوف »خارج« اتفاق أوسلو، مع وعد بأن »يتنازل« فيقبل مبدأ التفاوض على الاعتراف به أساساً للتفاوض الجديد!
وأما الملك فقد ربح تكريسه طرفاً ثالثاً في الموضوع الفلسطيني، برمته الآن، وليس متسللاً من الباب الخلفي الذي كان قد اختاره بمكر معتق: الأماكن المقدسة.
وأما بيل كلينتون فقد أكد مرجعيته، بشكل عام، وإن كان قد عجز عن انتزاع إقرار صريح من نتنياهو بحق الرئيس الأميركي في الإمرة!
على هذا، وخوفاً من زلات الألسنة، فقد وقف كلينتون وحده يواجه صحافيي العالم لينعى القمة بأفخم العبارات وأغناها بالوعد، متجنباً أي تحديد في أي موضوع عدا توكيد اعتبار معبر أريتز عند »حدود« غزة وكأنه الحديقة الخلفية للبيت الأبيض.
إلى الخلف، وكالتلامذة الشاطرين ينتظرون الجوائز، جلس الثلاثة في صف واحد، مكتوفي الأيدي: على وجه الحسين ابتسامة ملكية رصينة تكسر حدة الجو المأساوي، وعلى وجه نتنياهو الحجري صلافة المتباهي بقوته حتى على مضيفه منقذه، بينما غاب الزهو عن وجه عرفات وتدلت شفته السفلى وغام بصره ولم يستطع التعبير عن فرحته »بالصعود« إلى البيت الأبيض، من جديد.
أين أوسلو من واشنطن؟
أين غزة من القدس؟
أين الخليل من حربها والمستوطنات؟!
أين فلسطين من فلسطين؟!
حوالى سبعين شهيداً، وألف جريح، وخسائر مادية بغير حصر، وشفاعة بيل كلينتون: كل ذلك من أجل انتزاع موافقة بنيامين نتنياهو على الجلوس، مجرد الجلوس، إلى طاولة المفاوضات، مجرد المفاوضات، حول إعادة الانتشار في الخليل، والخليل وحدها؟!
كم يتكلّف تجديد المفاوضات حول اتفاق أوسلو إذاً؟!
* * *
أخطر ما في قمة واشنطن أنها ربما تكون قد أعطت نتنياهو شهادة مصدَّقة بأن تطرّفه حتى إلى الحد الأقصى، لا يجعله مرفوضاً.
ولعله لم يكن يطلب إلا الإقرار بأن تطرّفه »مشروع« وعلى شرعية هذا التطرّف يبنى مقتضاه.
يحفر النفق فنعجز ليس فقط عن إجباره على إغلاقه، بل حتى عن إجباره على وضعه على طاولة المفاوضات.
أي أنه يملك، وقد فعل، تبديل أساس التفاوض.
يطالب بمحاكمة مَن أطلق النار من رجال الشرطة الفلسطينية، دفاعاً عن النفس، قبل الدفاع عن الأهل، ويهدد بسحب السلاح »الذي أعطاه إياها«، فارضاً حصار الدبابات على مدن الضفة جميعاً، فيكاد يصبح المطلب أن يتكرّم بالعفو عن هؤلاء »الخطاة« الذين دفعتهم »فورة الدم« إلى ارتكاب المعصية وتوجيه رصاصهم إلى مَن يطلق عليهم النار وليس إلى أهلهم العزل في الخلف.
وغداً، عند معبر أريتز لن تكون ثمة مفاوضات.
ما عجز عرفات عن انتزاعه بمساعدة بيل كلينتون لن يكون متيسراً له أن ينتزعه بشطارته في المناورة واللعب على الكلام!
ولعل أخطر خسارة قد يُمنى بها عرفات والفلسطينيون غداً هي أن يحاسبه الإسرائيليون من معارضي نتنياهو ورافضي تطرفه محاسبة مَن خذلهم وتخلّى عن حقه الذي »استفزهم« إنكاره أو تجاوزه من قبل رئيس حكومتهم الذاهب إلى حرب لا يريدونها.
الطريف أن »المعتدلين« الإسرائيليين قد يحاسبون غداً العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً على أنهم قد خذلوهم مرتين وأنهم قد »نصروا« التطرّف الإسرائيلي مرتين: مرة في الانتخابات ومرة في قمة واشنطن بعد انتفاضة أيلول.
* * *
الكلمة الأخيرة لفلسطين الداخل، مرة أخرى.
فهذه القمة التي لم تقدم أكثر من وعد غامض بالتفاوض المفتوح حول ما يفترض أنه قد بات خارج المفاوضة، لم توفر أي تصور لحل المعضلات الهائلة التي تسد طريق السلام فوق أرض فلسطين، والمنطقة، والتي عزّزها نتنياهو الآن بحشد الدبابات وتوجيه مدافعها إلى صدور المقهورين في إنسانيتهم والجائعين إلى الخبز مع الكرامة.
ولعل هذه القمة قد أحالت الأمر، من جديد، إلى »الشارع«، في فلسطين المحتلة، وفي سائر الأرض العربية، وداخل »المجتمع« الاسرائيلي.
وقد يكون على المليوني فلسطيني المحاصرين، في أرضهم، بالفقر والعوز والبطالة والدبابات والموت اليومي والاعتقال الجماعي والإذلال المتصل على مدار الساعة، أن يواجهوا التطرف الإسرائيلي مباشرة، وبالاستناد إلى تأييد عربي قد يكون مقدراً له أن يتخطى الموقف اللفظي، الآن، وإلى هذا الدعم الدولي الواسع النطاق والمؤثر جداً إذا ما تُرجم في السياسة وليس في التبرعات والصدقات التي قد تحرف »الانتفاضة« عن مسارها بأكثر مما تساعدها على إنجاز مهمتها التاريخية.
ولعل الموقف المصري، إذا ما صمد للضغوط الهائلة التي ستوجه إليه، سيكون نقطة البداية للخروج من نفق العجز إلى أفق التسوية المقبولة، متكئاً على الموقف السوري الثابت ومعه لبنان المضرج بدم صموده ومقاومته الباسلة للاحتلال.
أما بقية العرب فلن يتأخروا كثيراً في الحضور..
إنهم سيجيئون فور الإعلان عن فوز كلينتون بولاية جديدة.
ولعل ذلك »الموعد المسحور« هو الموعد الفعلي لكل أنواع التفاوض مع التطرف الإسرائيلي.

Exit mobile version