طلال سلمان

من »الإسلام العربي« إلى »الإسلام الأميركي«؟!

في أوائل آذار 1979، ومع الأيام الأولى لانتصار »الثورة الإسلامية« في إيران، وعودة آية الله روح الله الموسوي الخميني من منفاه الفرنسي إلى طهران، وعشية إعلان »الجمهورية الإسلامية« كانت عاصمة الأمبراطورية القديمة تمور بالنقاش الخصب حول موقع الدولة من الإسلام، أو موقع الإسلام تحديداً في الدولة المجددة بالثورة.
أستذكر هذه الأيام جدلاً دار بحدة وشبهة عنصرية مع »أول رئيس« للجمهورية الإسلامية في إيران، أبو الحسن بني صدر، واتخذ سياقاً حوارياً راقياً مع المناضل الكبير الراحل آية الله طالقاني، وكان موضوعه مسؤولية العرب عن غياب النموذج المتكامل للدولة الإسلامية.
قال بني صدر بلهجة من ينطق حكماً بالإعدام، ما مفاده: إنما نحاول نحن الآن في إيران تصحيح خطأ تاريخي تسببتم به أنتم العرب بسبب غربتكم عن »الدولة«. لقد جاء الرسول بدين الحق، لكنه لم يكن يعرف »الدولة«. وهكذا لا نجد اليوم مرجعاً يرشدنا إلى الصورة النموذجية للدولة الإسلامية، وذلك »فضل« عربي سنتذكره دائماً.
أما آية الله طالقاني فكان أكثر دقة حين وصف الحالة على الشكل التالي: اجتهد الرسول في المدينة المنورة في إرساء الأسس لمجتمع، ولنواة أولية للدولة، وحاول تحويل النص المقدس إلى نظم وقوانين ومشاريع إدارة. ولقد تابع الخلفاء الراشدون هذا النهج، خصوصا مع اتساع رقعة الفتوحات وانتشار »السلطة الجديدة« على أمصار خارج نطاق الجزيرة العربية، وصولاً إلى مصر وسائر أفريقيا شمالاً، وإلى فارس وسائر آسيا شرقاً. أما بعد القضاء على الخلافة الراشدة باغتيال الإمام علي بن أبي طالب واستيلاء معاوية على الحكم، فقد أقام »الأمويون« أمبراطورية ثالثة على أنقاض أمبراطوريتي فارس والروم المنهارتين… وكان تحويل الحكم من بيعة شعبية للأصلح والأعلم والأجدر إلى ملكية وراثية نقطة النهاية في التجربة العربية مع إقامة الدولة الإسلامية. ولأن التاريخ لا يعود إلى الخلف فعلينا الآن أن نجتهد في إعادة صياغة الدولة الحديثة بما يتوافق مع الدين الحق، وسيكون علينا أن نتعب كثيراً وأن نفكر طويلاً لكي ننجز نموذجاً معاصراً وقابلاً للحياة للدولة الإسلامية.
وعلى غنى ما أنجزته التجربة الإيرانية في سياق بلورة »المشروع« القديم الجديد، فإن الجدل ما زال دائراً، وغالباً بحدة، حول موقع الإسلام في الدولة الحديثة أو موقع الدولة في الإسلام الذي لا يشيخ.
* * *
لم تهبط الأزمة على المسلمين، والعرب »طليعتهم السياسية«، من طائرات 11 أيلول الأميركية… لكنها، عبر التفجيرات التي ستشكل نقطة بداية جديدة لعالم الألفية الثالثة، بلغت ذروة تعقيداتها الدامية.
عمر الأزمة المتعددة الوجوه مديد يتجاوز القرن، إذا ما حددنا نقطة البداية مع »عصر النهضة«. ولعل أبرز تجليات التصدي لعلاجها قد جاء مع حركة التنوير والإصلاح الديني التي استولدها الارتطام الحضاري بالآخر الغربي، وهو غير مسلم، وغير عربي، ثم إنه الأقوى والأعلم والأعرق بالقياس في الإيمان بفكرة الدولة، ثم بتنظيمها في مؤسسات، ثم في الاعتراف بالمواطنين وبحقوقهم فيها وعليها.
من يجرؤ اليوم على إعادة نشر مؤلفات جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وغيرهما من الرواد الشجعان الذين اقتحموا »حقل الألغام« وباشروا نفض الغبار عن »المؤسسة الكهنوتية« التي استولدها السلطان من خارج الإسلام، والتي كانت قد اعتقلت المسلمين في سجن النص والتفاسير المتهالكة والمتوارثة والقاصرة عن معالجة مشكلاتهم مع دنياهم ومع تصوراتهم البدائية والهجينة للدولة و»الرئيس« »الملك« »الأمير« الذي أخذ لنفسه حقوق الخليفة والسلطان وأمير المؤمنين، فألغى الوطن والمواطن وحقوق الإنسان جميعاً ونصَّب نفسه المرجع الديني الأول والأخير؟!
* * *
منذ زمن بعيد صار »الإسلام« سلاحاً في يد الأقوى على المسلمين!
مع بدايات القرن الماضي استخدم الغرب الإسلام العربي باسم القومية في وجه السلطان الخليفة العثماني.
ثم استخدم الغرب الإسلام كسلاح سياسي في وجه الحركة القومية الوليدة والناهضة والتي ظلت قاصرة عن صياغة علاقة صحية مع الدين.
وبطبيعة الحال فقد استخدم الغرب الإسلام كسلاح سياسي فتاك في وجه الحركة الشيوعية وحاول أن يبني بالدين الحنيف سداً قوياً أمام »الملحدين« الآتين من صلب الماركسية… ولقد وصل به الابتذال إلى حد التذكير بالتأثير اليهودي (آنذاك) على الحركة الشيوعية، ليستنفر عداء المسيحيين فضلاً عن المسلمين.
الآن، ومع التراجع المزري للدعوة القومية وفشلها في تقديم النموذج القابل للحياة للدولة العربية، التي تتسع »للمواطن« ولحقوقه في الديموقراطية، أي في حرية الرأي والتعبير والعمل والمعتقد، انفتح الباب فسيحاً أمام النمط الغربي الممسوخ من الإسلام السياسي.
ها هي أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية (والغربية عموماً) تعيد صياغة الإسلام سياسياً بما يتناسب مع مصالحها في »ديار الإسلام«.
في البدء كان الإسلام العربي… وها نحن في مواجهة »النهايات« أمام الإسلام الغربي، الأميركي بالضرورة.
ومن أسف فإن الإسلام السياسي، كما طوّعه واستخدمه حكام المسلمين، لم يكن يوماً في خدمة طموح المسلمين إلى حياة حرة وكريمة… وهو في أحسن الحالات عرض عليهم موقع »الرعية« ولم يمكنهم قطّ من بلوغ مرتبة »المواطنين«، بل إنه في الغالب الأعم قد شوّه فكرة الوطن ليدفعهم إلى غياهب »الدولة الدينية« غير المحددة الملامح والأسس والتي تأخذ الى التبعية المطلقة للقوى المهيمنة، وهي كانت على امتداد القرن الماضي »غربية« وهي الآن أميركية صريحة.
* * *
هل انهار المسلمون لأنهم مثقلون بأعباء النص الديني المانع لبناء الدولة الحديثة، أم لأنهم عجزوا عن إعادة تفسير هذا النص بما يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية ويحمي حقوقهم المدنية في دولتهم العصرية غير الدينية حتى لو كان مجموع شعبها من المسلمين؟.. فإن صح ذلك سيكون سهلاً الاستنتاج أن انتماءهم الديني يمنع عنهم حقوقهم على وطنهم كمواطنين فيه، أو حقوقهم في أن يعبّروا عن أفكارهم وآرائهم بحرية ومن دون الخوف من اتهامهم بالردة أو بالخروج على الدين؟!
إن المسلمين في أزمة حادة تبرز أكثر ما تبرز في الدول التي تنسب نفسها إلى الدين الحنيف وتعرف نفسها به، من باكستان إلى السعودية، ومن موريتانيا إلى السودان، من غير أن ننسى التجربة الأفغانية البائسة مع حكومة طالبان وأمير المؤمنين الشريد الآن في بعض مجاهل بلاده المنكوبة مرتين، بل مرات ومرات.
إن المسلمين في أزمة حادة، يستوي في ذلك »أحزابهم« أو »جمعياتهم« أو الأفراد.
لكأنهم أمام خيار بين أمرين أحلاهما مر: أن يخرجوا من الدنيا ليبقوا في الدين الذي يشتد خلافهم معه ومن حوله، أو أن يبقوا في الدنيا ولكن بإسلام مستورد ومذبوح على الطريقة الشرعية بسكين أميركية.
أما العرب فكأنهم خارج الدين والدنيا معاً.
هذا العدد من »السفير« محاولة للتفكير عبر عرض الجوانب المختلفة لأزمة المسلمين مع أنفسهم ومع الغير، مع دينهم ومع دنياهم.
وهي محاولة أولية في أي حال، سبقنا إليها وفيها كثيرون، ولكنها تتسع بعد لكل اجتهاد ولكل محاولة للفهم أو للتحليل والتفسير.
إنه أخطر تحدٍّ يواجهه المسلمون عموماً والعرب على وجه الخصوص، منذ أجيال. وهو تحدٍّ مؤجل ومرجأة مواجهته.
أما اليوم فلا مجال للإرجاء أو للتأجيل… فلنحاول جميعاً أن نفكر معاً، حتى لا يكون »الأفغان العرب« أو الملا محمد عمر ومن شاكله هم الورثاء لجمال الدين الأفغاني ورفاقه من المجتهدين الميامين.

Exit mobile version